بعد نشر مقالي »الإصلاح والتغيير أواللبننة« وإذا بسيل المراسلات والمحادثات لم ينقطع. كان اهتمام الجماهير موازياً لاهتمام النخبة في ضرورة أن تغير الحكومة سياساتها التي همشت المواطن واستبعدته. إلا أن طموحات النخبة كانت أعرض وأكبر حيث إنصب جام غضبها علي النظام ككل. وهو أمرلا يعيب النخبة حيث هي طليعة الطبقة الوسطي وتطلعها للتغيير والتحديث والنهضة، وربما هي ظاهرة ارتبطت ببعد نظرها وقدرتها علي استشراف المستقبل والعمل من أجل ضماناته واستحقاقاته. أما جماهيرنا في هذه العينة من القراء ذوي الأنشطة العملية والمهنية المختلفة فإنما انحصر تفكيرها في كيفية الوصول إلي الستر أومجتمع الكفاية الذي يخرج بهم من حد الكفاف وما دونه، ولا تلمح في مطالبها أي طموح للوصول إلي مجتمع الرفاهة علي غرار التطلعات المظهرية للأغنياء الجدد nouveau riche والتي تختلف ثقافياً وسلوكياً واجتماعياً عن مثيلاتها من الطبقات الارستقراطية التقليدية في اهتماماتها ومساهماتها المجتمعية والإنسانية المعروفة. إنصبت معظم التعليقات علي رغبة عارمة في إحداث حركة تغييرات عاجلة تعمل علي سد الذرائع فيما أسموه الفشل البادي للحكومة الحالية علي الوفاء بمتطلبات الحياة الكريمة للجماهير التي لاتزال تبحث عن طريق للوصول إلي مفردات عقد اجتماعي أولي شواهده الشراكة في الوطن والحق في تقرير محددات ومؤشرات التنمية بما فيها التوزيع العادل للدخل القومي العام وتقليص الفجوة بين الأجور والأسعار والحد من البطالة ومعاملة المواطن باعتباره شريكاً ذا حق أصيل في ملكية مقدرات هذا الوطن لا واحداً من الرعايا. وكان النقد جارحاً للغياب الطوعي لبعض وزراء الحكومة عن أهم مسئولياتهم في التعامل اليومي والعاجل مع مشكلات العمالة المصرية التي اضطرتها ضغوط الحاجة وقلة ذات اليد إلي افتراش العراء والتحاف السماء علي أرصفة مجلس الشعب. ومع تنامي ظاهرة الإضرابات والإعتصامات وتغيب الحكومة والمؤسسات النيابية والنقابية والوزراء عن التعاطي السياسي النشط مع هذه الحركات الاحتجاجية، إنما يعطي انطباعاً عن تخلف دور الدولة وضعف هياكلها السياسية وجمود أفق الحكومة ووزرائها وافتقادهم المرونة الكافية لاحتواء غضبة الناس وحل مشكلاتهم، وفي الحقيقة فإن أغلبها من صنع الحكومة نفسها وسياساتها الفوقية وتعالي بعض الوزاراء وإعتمادهم في دواوينهم ومكاتبهم علي بعض محدودي الكفاءة معدومي القدرة علي الفعل والابتكار والمبادرة أو ما يطلق عليهم اصطلاحاً »المديوكر«. إن أولئك »المديوكرات« لا يعبأون بأداء واجباتهم تجاه الجماهير بقدر اهتمامهم بإرضاء أولي الأمر من الرؤساء والوزراء والمنفذين، فهم أصحاب ولاء لاكفاءة. ومن هنا جاء تجاهل الحكومة لكل المطالب المشروعة والإحتياجات الضاغطة علي محدودي الدخل المنكوبين بسياسات الخصخصة وبيع المصانع وتفكيك بنية التصنيع الذي كان في طليعة معاركنا الوطنية في الستينيات. إن استوزار عدد غير محدود من وزراء الصدفة أو وزراء المصالح والمعارف والكارتلات من غير السياسيين، أوصلنا إلي هذه السياسات الحكومية التي تعاملت مع الناس بنفس منطق تعاملها مع الأرقام والدفاتر والحسابات، وتناست الحكومة وبعض وزرائها أن الفارق كبير بين إدارة الأوطان وإدارة الشركات والمؤسسات. الأوطان لا تدار بحسابات المكسب والخسارة. إن هناك إحساساً عاماً بضعف الحكومة وتآكل مصداقيتها ومحدودية قدرتها علي المبادرة وتركيز سياساتها بشكل فوقي وانتقائي، وتغليب الخاص علي العام عند بعض وزرائها ممن لا يتردد في إهدار الكفاءات وتدمير النجاحات حتي لا يبدو أن هناك من هو قادر غيره علي الإنجاز والإبداع والنجاح. وبعضهم يتفنن في تصعيد »المديوكرات« إلي وظائف عليا دون مبررات من كفاءة أو موهبة أو قدرات مهنية، الأمر الذي وصل بنا إلي تقزيم كثير من هيئاتنا الكبري التي تسيرها قوي الدفع الذاتي بأقل طاقاتها بينما لو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب لكانت نهضة شاملة وأفق يحمل بشارات مستقبل أفضل. لفت نظري واحد من الخبثاء السياسيين إلي ظاهرة في بعض الوزارات أسماها "أصحاب رابطات العنق الحمراء" وراح يعدد الأسماء والملابسات والحكايات، العجيب أنها فعلاً ظاهرة كنت أتشكك فيها، ومن شواهدها أن يستقدم الوزير شخصاً "مديوكر" محدود الفكر والكفاءة يعمل فترة في مكتبه وسرعان ما يتم ندبه لأكثر من وظيفة قيادية في الوزارة فيحيط نفسه بهالة مصطنعة من الأهمية والإنتفاخ، ولم لا وهو صاحب الحظوة لدي السيد الوزير وهو الآمر المطاع، ويتم ترقيته مديراً لمكتب الوزير ثم مشرفاً علي القطاع الفلاني ومنسقاً للمشروع العلاني ثم مساعداً للوزير وأخيراً رئيس هيئة كبري علي درجة وزير دون سند من تاريخ وظيفي أوعطاء غير عادي اللهم إلا قربه من السيد الوزير. قال الرجل ذلك وأدرته في ذاكرتي علي عدد ممن تعاملت معهم ووجدت نفس السيناريو في أكثر من وزارة ونفس المديوكر الذي يحظي بكره الجميع ويلوك سيرته الآخرون، ووجدتهم للمصادفه جميعاً من أصحاب الكرفتات الحمراء، وبدأت في الربط بينهم وبين كرافتات حمراء معروفة عالمياً لعدد غير محدود من المحافظين الجدد "النيوكونز" في الولاياتالمتحدةالأمريكية أمثال ريتشارد بيرل، جون بولتون، إليوت إبرامز، دايفيد بروكس، بل وجورج دبليو بوش نفسه وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق و"خوسيه ماريا أثنار" رئيس الوزراء الأسباني السابق وغيرهم من اليمين المتطرف المعادي للقضايا العربية والموالي للسياسات الأمريكية والإسرائيلية والمستهدف لمصر ودورها إقليمياً وعالمياً. هل هي إذن مصادفة؟ ربما!! نشرت هذا المقال في الأخبار قبل الثورة بشهور عديدة، وأحسب أنه لايزال صالحا للنشر حتي اليوم، وأهديه للحكومة الغائبة والجنرالات الحائرين، وعلي وزير التعليم العالي والبحث العلمي أن ينظر حوله في غضب.