عودة الجيش إلي ثكناته غدا بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية ضرورة لتحقيق الديمقراطية التي نسعي اليها.. لكن عودته اليوم أو الآن ونحن لم ننجز حتي الانتخابات البرلمانية كارثة!.. وملامح وحجم هذه الكارثة يمكننا أن نتبينها منمتابعة ما يحدث علي المسرح السياسي من خلافات وانقسامات وانشقاقات بلغت ذروتها مع فتح باب الترشيح لانتخابات مجلسي الشعب والشوري. فهاهي القوي السياسية والحزبية التي كانت تتمسك بانتخابات القائمة النسبية تجد صعوبة بالغة في تشكيل قوائمها الانتخابية بسبب الخلافات التي نشبت فيما بينها.. وبعد ان حلق البعض برومانسية في عناء السماء مطالبا بقائمة انتخابية واحدة تضم كل القوي والاحزاب السياسية لضمان تمثيل الجميع في البرلمان القادم، فاننا نجد التحالفات والتكتلات الانتخابية التي هلل لها البعض ينفرط عقدها وتتآكل يوما بعد الآخر.. ولم يسلم من ذلك تحالفات الذين تجمعهم روابط مشتركة مثل الاحزاب والقوي الدينية، أو الاحزاب والقوي الليبرالية أو المؤيدة للدولة المدنية. الخلاف الآن بات هو سيد الموقف والبطل الاوحد علي المسرح السياسي.. بل ان التنافس الانتخابي حول هذا الخلاف الي صراع أتي علي التحالفات الانتخابية بين القوي والاحزاب السياسية.. بل واصاب حتي الاحزاب من داخلها مثلما حدث في حزب التجمع وأقل قليلا في حزب الوفد. وفي ظل هذا الخلاف أو الصراع سوف يتعذر علي الفرقاء السياسيين الاتفاق علي مجموعة أو هيئة أو لجنة تتولي ادارة شئون البلاد وقيادة المرحلة الانتقالية الراهنة اذا ما عاد الجيش الي ثكناته اليوم، وتخلي المجلس الاعلي للقوات المسلحة عن ادارة شئون البلاد كما تطالب بعض الاصوات الآن.. ولعلنا نتذكر كيف اختلفت هذه القوي في وقت مبكر لم تكن تعاني من كل هذه الصراعات حول تسمية اعضاء لجنة رئاسية مدنية تشارك الجيش في ادارة شئون البلاد.. ونتذكر ايضا كيف تحول الخلاف الي صراع حول ترتيب أولويات المرحلة الانتقالية، وهل يكون الدستور اولا أم الانتخابات البرلمانية اولا.. ثم كيف اقترن هذا الصراع بتهديدات عنيفة عندما بدأ الحديث عن مبادئ عامة للدستور يتم التوافق عليها وقواعد لتشكيل لجنة صياغة هذا الدستور. وهكذا.. اذا تركنا الجيش في هذا الوضع وعاد الي ثكناته تلبية لمطلب هذه الاصوات المغامرة سوف نجد أنفسنا نحن المدنيين عاجزين عن ادارة شئون البلاد والعباد وانجاز مهام المرحلة الانتقالية.. وبدلا من ان نخطو الي عتبة الدولة المدنية الديمقراطية التي نحلم بها، سوف نجد أنفسنا في خضم صراع هائل وعنيف ودامي بين بعضنا البعض.. لاننا لم ولن نستطع الاتفاق علي من يحل محل المجلس الأعلي للقوات المسلحة في ادارة شئون البلاد. اذن.. هي مغامرة ومقامرة خطيرة ان يتركنا الجيش الآن في هذا الوقت ويعود الي ثكناته كما تطالب بعض الاصوات بدون وعي وبلا حكمة.. مغامرة غير مضمونة العواقب.. ومقامرة بثورة 52 يناير تهددها بالاجهاض التام.. ووجود ملاحظات لنا هنا وهناك علي أداء المجلس الأعلي للقوات المسلحة حول طريقة ادارته للمرحلة الانتقالية لا تبرر أبدا أن نلقي بأنفسنا بهذا الشكل في التهلكة والتورط في هذه المغامرة أو هذه المقامرة.. حتي الحماس الزائد والضروري لانجاز اهداف ثورة 52 يناير يحضنا علي تجنب هذه المغامرة ورفض هذه المقامرة، واستكمال المرحلة الانتقالية في ظل ادارة المجلس الاعلي للقوات المسلحة لها. والعقل والمنطق يجعلنا نطالب الجيش بالبقاء معنا في هذه المرحلة الحرجة والمهمة من تاريخ بلادنا، وأن نكف عن هذه المطالب غير المفهومة بعودته الي ثكناته اليوم أو الآن وفورا.. هذا اذا كنا حريصين بالفعل علي انجاز مهام هذه المرحلة الانتقالية بأمان وسلام أو فلنقل بأقل قدر من الخسائر السياسية والاقتصادية وحتي البشرية. ولنتذكر أننا لم ننجو من بعض البلطجية والعنف الذي نشكو منه صباح ومساء كل يوم الآن.. ومازلنا نحتاج لجهود قواتنا المسلحة في توفير الأمن، نظرا لان الشرطة لم تعد بكل قواها الي الشارع بعد.. بل ان بعض الذين ينتمون الي النخبة السياسية يخشون بشدة الآن الا تستكمل الانتخابات بسبب العنف الذي يتوقعون ان يصاحبها وان يكون واسعا لدرجة تفرض علي المجلس الاعلي للقوات المسلحة ومعه الحكومة اتخاذ قرار بوقف الانتخابات أو ارجائها بعد المرحلة الاولي. ثم ماهو هذا التخبط الذي تتسم به تصريحات بعض الفرقاء السياسيين.. يطالبون الجيش بالعودة الي ثكناته، أو بالتوقف عن ادارة شئون البلاد وترك المهمة كلها للحكومة، بعد اعادة تشكيلها بالطبع، وفي ذات الوقت يطالبون المجلس بعدد من المطالب؟!.. كيف سينجز لهم هذه المطالب اذا كان سيتخلي عن كل سلطاته اذن؟!.. أليس هذا دليل علي عشوائية التفكير وعدم عقلانيته. أن اعمال العقل والتمسك بمصلحة البلاد يدعونا الي دعوة الجيش بالبقاء معنا حتي ننتهي من انجاز مهام المرحلة الانتقالية كلها واعادة بناء كل مؤسساتنا وانتخاب رئيس جديد. بل ان بقاء الجيش معنا خلال فترة اعداد الدستور ضروري ايضا وضمانة لان يأتي هذا الدستور الجديد ترجمة لتوافق مجتمعي وليس تعبيرا عن تناحر سياسي يتيح للقوي السياسية الاكثر تنظيما ان تفرض ارادتها علي الجميع ورؤيتها وحدها في هذا الدستور فنحصد الندم في نهاية المطاف وبعد فوات الأوان. اما الملاحظات التي قد تتكون لدينا حول أسلوب وطريقة المجلس الاعلي في ادارة المرحلة الانتقالية فان سبيلنا الوحيد لعلاجها هو الحوار مع المجلس، خاصة وان هذا الحوار سوف يتم ترشيده بعد ان يعرف كل الفرقاء حجمه ووزنه وقدره الشعبي علي المسرح السياسي بعد الانتخابات.. حيث لم يعد ممكنا ان يدعي شخص أو بضعة أشخاص أو جماعة أو حزب أنه وحده دون غيره هو الذي يمثل الشعب. وعندما ننتهي من اعداد الدستور وانتخاب رئيس جمهورية جديد لنا لن نكون في حاجة لان نطلب من الجيش ان يعود الي ثكناته.. لانه سوف يفعل ذلك بدون طلب من أحد.. سيفعله طواعية وعن قناعة لانه يدرك أن العقد الثاني من القرن الحالي يختلف من خمسينات القرن الماضي.