».. ولو ناراً نفخت بها أضاعت.. ولكن أنت تنفخ في رماد!!« هذان البيتان للشاعر العربي عمرو بن مُعد يكرب، أذكرهما حين أذكر حالي وحال أصوات كثيرة لا مصلحة لها في شيء سوي مصلحة ومصير هذا البلد الكبير دون اعتبارات حزبية أو شخصية.. اعتبارات في أغلبها باتت بلاء من ربكم عظيم وأبدأ مكرراً أني ما كنت بكاتب سياسي ولا ممارس للعمل السياسي ولكني كتبت في زمن مبارك عدة مقالات حين أضناني عالم ساقط يحيط بي وبكم، متجاوزاً دوري ككاتب مسرحي مصري، إلي نفثات غضب، وقت أن كانوا يقولون دعوهم يصرخون ولنفعل نحن ما نريد. وحين تفجر الأمل في نفسي ككل المصريين يوم 52 يناير بعد يأس وغضب طويلين.. نضح قلبي بكلمات وخواطر تحمل رجاءات وبعض مخاوف.. وإذا بالأيام تأتي بما يفطر القلب ويحرق الدم.. ويوقظ ما هو أبعد من مجرد مخاوف.. ما الذي أوصلنا إلي ما نحن فيه؟ والآن أسأل: ما الذي.. ومن الذي أوصلنا إلي ما صرنا إليه منذ قامت الثورة وحتي انقضاء تلك الشهور الطويلة؟! أسأل وقد كنت من المحذرين منذ الأيام الأولي مما نلقاه الآن وندفع ثمنه، ويتهددنا في الأيام القادمة وهي تدان بنا إلي غيوم الآن؟ قبل 52 يناير كنت أسجل بعض مقالات متناثرة في صحيفة »العربي« أسجل فيها شهادتي علي ما أراه من أوزار نظام مبارك، وأرسل في الهواء مواجعي وما أراه مواجع غيري. وحين جاءت ثورة 52 يناير كأنما وقعت الواقعة.. الواقعة المعجزة البشري.. وتوالت الأيام بعدها وبدأت بخواطر تحمل تحذيرات.. ورويداً بدأت التحذيرات تتحول إلي هواجس ومخاوف ثم أبعد. صبيحة يوم 11 فبراير ذكرت في »الشروق« أن شباب مصر يعيد صياغة خريطة العالم من ميدان التحرير، وأن تحقيق الأهداف مرهون بقدرة الصمود والثمن الذي يجب أن ندفعه، وذكرت أن الجمود هو الخطر الحقيقي في كل الأحوال.. ولم يكن قد أعلن عن خلع مبارك بعد إلا في مساء هذا اليوم.. ومع خلعه أحسست أن ما ذكرت يظل أكثر إلحاحاً.. ومضت أيام عشرة كانت في اعتقادي بالغة الأهمية في أمر ملح وعاجل.. وهو البدء في التطهير الكامل تجاه النظام القديم كله شأن كل الثورات الحقيقية.. ولكن.. لم تحدث أي خطوة تجاه هذا الهدف الأول والملح وكتبت في 02 فبراير 1102 »بالعربي« »لم التأخر في التطهير؟« مؤكداً أن من حقي أن أسأل: هل سقط النظام حقاً؟ ألا توجد له جيوب وأذناب وذيول في مواقعها ومؤسساتها قادرة علي التحرك والتأثير؟.. ورغم هذه الإشارة المبكرة فإن هذا الوضع مازال قائماً حتي كتابة هذه السطور!! ثم حاولت أن أتساءل بنية حسنة هل رأي المجلس العسكري أن يرجئ الأمر كله حتي يسلم البلاد إلي سلطة مدنية؟ وبدت الإجابة علي الفور من وجهة نظري أن الأمر لا يحتمل ذلك بالمرة، بل يستدعي سرعة الحسم تأميناً لتلك الثورة التي لا تؤمَّن إلا بمنطق الثورة الحاسم، وإلا فإن الثورة تقدم الفرصة الذهبية لمن تركناهم دون أي إجراء يحقق التطهر الكامل من النظام القديم ورموزه وكل ما كان عليه قائماً.. ونبهت وقتها ومبكراً أيضاً إلي حاجتنا في هذا الصدد إلي تفعيل جوهر »قانون الغدر« و»العزل السياسي« وجمع بلطجية النظام المسجلين دفعة واحدة وكررت ذلك مراراً في مقالات تالية! وتوالت أعراض الخطأ الكبير وهكذا بدأ فيما تلي من أيام وأحداث نتيجة هذا التفريط في الأخذ بأهم مبدأ في كل الثورات وهو التطهير الكامل والجذري وبمنطق هذه الثورة وأهدافها التي جري الإجماع عليها منذ أيامها الأولي بين كل الأطراف.. حيث بدأت أيادي النظام القديم في تحقيق ضربات متتالية موجعة من الفتن الطائفية وغيرها مما انتشر كالنار في الهشيم.. نسرع للإطفاء هنا لنجدها تشتعل هناك.. وقطيع البلطجية يحمل الأوامر ويعمل بهمة، وكتبت في 81 مارس 1102 »لماذا تركتم الأفاعي طويلاً؟«.. وأطلّت خلال ذلك المفارقة الأكثر ضرراً.. فبقدر بطء التطهير إلي حد انعدامه، بقدر التسارع نحو قرارات خاصة ببناء الدولة المدنية الحديثة..! فأي بناء هذا فوق أنقاض لم تُرفع وهيكل قديم لم يُهدم وبكل شياطينه وأذرعه الممتدة؟ ومع ظلال الكوابيس القديمة تحوم فوق المشهد.. ونحن في النهاية ظهورنا مكشوفة أمام هؤلاء المتربصين للقفز واستغلال نتائج تلك العجلة، وأمام القوي الخارجية المستنفرة ضدنا سراً وعلانية.. وعليه فإن كل ما جري قبل تحقيق التطهير هو مسار خاطئ وعقيم عقيم. وعندما تساءلت في 52 مارس 1102 بصحيفة »الأخبار« »ودنك منين يا جحا؟« كان ذلك حول مسألة الاستفتاء كنتاج لهذا التسرع وما جره من ارتباك أدي إلي محاولة تصحيح بالتعديلات الدستورية الجمة التي لم يُستفت عليها برغم أن الشعب استُفتي في سبع مدن فقط!! وكان ما كان من متاهة مازلنا ندور داخلها وهو ما حذرت منه في 8 أبريل »كلام معاد لابد منه« بالأخبار.. وقادنا هذا التيه من فشل إلي فشل بحكومة واهية، زادت من الاحتقان في تصاعد خاصة حين تلقي بوعود جزئية وأحياناً وهمية دونما أثر وصاحب ذلك كماً ضخماً من اجتماعات ومؤتمرات تعقد وتنفض.. ثم تعود لتعقد ثم تنفض.. بين أطراف لا يصلون معاً إلي شيء.. ولا يرون منفردين إلا مصالحهم الحزبية أو الشخصية أو الفئوية بخلاف حسابات المدسوسين من القوي المتربصة بالداخل وأيضاً بالخارج.. وحتي الساعات الأخيرة وأنا أكتب هذه الخاطرة.. اجتماعات متوالية يُعلن أنها أعادت النظر في كل شيء. وحددت كثيراً مما هو غير محدد.. ثم يتكشف أنه الخلاف والاختلاف داخل الدائرة المغلقة.. والأهم أن مسار كل الأطراف بما فيهم القوي السياسية يمضي الآن في اتجاه خاطئ تماماً برأيين.. لأن الجميع زاد ابتعادهم عن الترتيب الصحيح والمنطلق الأصح. ماذا يقول العقل والمنطق.. والتاريخ ما كان أغنانا عن الارتباك والتناقض والفوضي والتيه.. وما كان أغنانا عن هذه المعاناة القاسية والشك في كل شيء والتي يعيشها عامة الناس.. ولو أننا التزمنا منذ البداية بالترتيب الصحيح، والذي بدأ في كل الثورات الناجزة في العالم.. بتطهر جذري وكامل من النظام القديم.. وبعد أن يتحقق ذلك ويؤمَّن، وهذا أسهل شيء مع وجود النية والعزم.. بعدها.. نضع البنية الأساسية لكل ما نرجوه من بناء.. أعني البدء بدستور جديد.. كامل مكتمل يستفتي عليه الشعب.. لتبدأ وفقاً له كل خطوات البناء السياسي والحزبي.. والاقتصادي والاجتماعي وضمنياً تحديد كل السلطات الخاصة بالمؤسسات الرئيسية.. وإجمالاً كل ما هو مطلوب لتدخل مصر إلي هذا العصر الذي أخرجوها منه.. تدخله كدولة مدنية حديثة قوية بحجمها الصحيح إقليمياً ودولياً.. ويتوقف ذلك كله علي البدء بالدستور. هذا ما يقول به المنطق الصحيح وتاريخ الثورات.. وللأسف حين تجاهلنا هذا المنطق ولم يتمسك به من يدرك مصداقيته وضرورته أو لم يستطع تحوّل المشهد إلي ما نحن فيه.. جدل عقيم متواصل.. مسارب فرعية تضر ولا تنفع، وعناء للناس فوق الطاقة.. إذ ما حدث بعد الثورة باعد بينهم وبين اللحظة الأولي وأغرقهم في هموم متراكمة من زمن مبارك.. وساورتهم الشكوك في الجميع وبالذات في شباب الثورة الذين ساهموا للأسف بتفككهم الواسع في ذلك، ناهيك عن وضع معظم الأحزاب، حيث غاب الصالح العام من أفقهم وحوصروا يوماً بعد يوم وفق المسار الخاطئ.. في حسابات حزبية لا علاقة لها بالأخطار الحقيقية ولا بالمصالح الحقيقية. لست بذلك داعياً لليأس أو التشاؤم، فلم ولن أتخلي أبداً عن إيماني بأن عقارب الساعة لن تعود إلي الوراء مهما كان الثمن!.. ولقد حذرت فقط خلال سبعة عشر مقالاً بالأخبار من أن ما يحدث لن يغلق أمامنا باب المستقبل.. ولكنه سيطيل من أمد الرحلة ويزيد مما سيدفعه الشعب المصري من ثمن لحريته بمزيد من المعاناة والعناء.. حذرت دائماً من الزمن والثمن.. دون فقدان للأمل. وهذا يدعوني للتوجه إلي كل من له صلة بالمشهد الذي نعيشه الآن قولاً أو فعلاً أن يسهم في تدارك تلك الفوضي وهذا الارتباك وكل ما ينذر باتساع دائرة المعاناة لدي الناس.. ومنح أعداء الثورة المزيد من الفرص أحدهم ظهر ويهدد بإشعال الصعيد ليمنع قانون العزل السياسي.. أدعو الأطراف الفاعلة جميعاً أن يحسنوا الإصغاء أولاً لصوت الحق والحقيقة.. خاصة لو أدركوا أنهم أمام الله والتاريخ مسئولون محاسبون حساباً عسيراً.. إن لم يتحلوا بالشجاعة ونكران المصالح الخاصة وحساباتها، وإعادة النظر في هذا الحصاد المر.. ليتجاوزوا بموقف حاسم يضعهم وهذا البلد علي الدرب الصحيح وبترتيب صحيح.. بما يطفئ نار القلق المتأجج الآن علي المستقبل لدي الشعب، وما يرد إلينا وإليه ثقة بالثورة ذات إمارات ودلائل.. وأنها بهذا مازالت علي الدرب الصحيح.. والمصير المرجو لأمة تولد من جديد.. فهل لهذه الأطراف أن تسمع وتعي إن كان قولي صحيحاً؟؟.. لعل وعسي! هوامش قالوا إن إسرائيل تقوم بتحقيق داخلي حول مقتل شهداء الشرطة المصريين في سيناء.. ثم قيل إن هناك تحقيقاً مشتركاً.. ثم ساد الصمت علي الجريمة كالمعتاد!! فهل صار قدرنا في كل العصور أن تهدر دماء شهدائنا عبثاً ودون عقاب؟ الحذر الحذر.. لا تستهينوا الآن بهذا السؤال! رجاء إلي الشعب المصري الصبور: لا تفقد صبرك أو ثقتك في أبنائك من شباب الثورة، فليس هم سبب عنائك وما يجري حولك كما يشيع البعض.. اجعل منهم أملاً لا تفريط فيه.. فالطريق طويل. تهديد النظام القدم بإشعال ثورة في الصعيد إن طبِّق العزل السياسي.. يضع النقاط كاملة علي كل الحروف.