صارت حياتنا وطباعنا من الصعوبة لدرجة أننا يئسنا من أن تنصلح الحال، وصرنا نتصايح ناصحين بعضنا، لكن لا أحد يستجيب للآخر، وبات ينطبق علينا بيت الشعر العربى: لقد أسمعت لو ناديت حيا.. ولكن لا حياة لمن تنادى. لقد أصبحنا نعيش فى شكوى دائمة من أوضاعنا الحياتية اليومية، فبمجرد أن يبدأ المواطن المصرى يومه، يستعد للمعاناة، فهو يشحذ تفكيره فى كيفية مواجهة زحام المواصلات، ويجهد نفسه فى البحث عن الطرق التى يخف فيها زحام المرور، وقبل أن يصل إلى العمل يسارع بالتفكير فى مشقة العودة، وهو لا ينقطع عن التفكير فى كيفية تدبير احتياجات المنزل ودروس الأولاد وسداد فواتير الكهرباء والمياه والغاز.. إلخ. وفى خضم معارك الحياة اليومية لا ييأس بعضنا من نصح الآخرين، فوسائل الإعلام تزدحم صفحاتها وشاشاتها بهذه النصائح، التى تتناول كل مناحى الحياة، ولكن نجد أنفسنا أمام حالة غريبة، أن لا أحد يستجيب، ولهذا كان عنوان المقال، لا حياة لمن تنادى. والحقيقة أن بيت الشعر هذا صار من عيون ودرر الشعر العربى، وكنت قد أشرت فى مقال سابق إلى أنه من صنع المتنبى، ولكن القارئ العزيز أيمن حلمى نبهنى، فى تعقيبه على المقال، إلى أن هذا البيت للشاعر عمرو بن معد يكرب. وإذ أشكر الصديق أيمن حلمى، أؤكد أنه من سعادتى أن أتلقى ملاحظات القراء الأعزاء، فليس هناك من هو أعلم العالمين، وكلنا نحتاج لمن يصحح لنا ويذكرنا، وقد جعلنى هذا أهتم أكثر بتتبع جذور هذا البيت المشهور فوجدت أنه قد شاع بين الناس وتداولوه بشأن من لا فائدة ترجى من نصحه. وقد تناقل الناس البيت وحفظوه، وكثيرا ما يستخدمونه فى المناسبات المختلفة، ولكن كثيرا أيضا ما ينسبونه إلى شاعر غير قائله، وإذا عرف البعض قائله، فإنه قليلا ما يحفظ بعضهم أبياتاً من شعره. الطريف أن الشاعر عمرو بن معد يكرب، الذى عاش بين عامى 525 و642 ميلادية، قد استخدم البيت نفسه فى أكثر من قصيدة، كما استخدمه شعراء آخرون على مدى الزمن، ومنهم كُثيّر بن عبد الرحمن بن الأسود، الذى اشتهر باسم حبيبته «عزة» فأطلق عليه «كُثيّر عزة»، كما اقتبسه الشاعر عبد الرحمن بن الحكم بن العاص، وضمنه الشاعر بشار بن برد إحدى قصائده، وكذلك الشاعر دريد بن الصمة، واستخدمه الشاعر بشارة بن عبد الرحمن الخاقانى الذى توفى عام 1772 ميلادية ، أما آخر الذين اقتبسوا هذا البيت المشهور فهو الشاعر رفاعة رافع الطهطاوى، المجدد المصرى الذى قاد عملية تطوير الفكر المصرى والذى عاش بين عامى 1801 و1873 ميلادية. إن الشعر هو ديوان العرب، وإذا نظرنا إلى تراثنا الشعرى الكبير، سنجد أن قدماءنا عبروا عن كل تفاصيل حياتنا بصورة تطابقت ليس مع واقعهم القديم فحسب، ولكن أيضا مع واقعنا المعاصر، وإلا فهل هناك أبلغ من مثل هذا البيت للتعبير عن حالنا التى نشكو منها جميعا، حال اللامبالاة والتبلد التى تعتنقها الغالبية من الناس، حالة الإهمال والتراخى التى نشعر بها فى كل مجالات حياتنا؟ لقد أسمعت لو ناديت حيا.. ولكن لا حياة لمن تنادى.... ونار لو نفخت بها أنارت.. ولكنك تنفخ فى رماد. أتمنى ألا نكون قد وصلنا إلى مرحلة اللا حياة.. أو مرحلة الرماد.