رغم كل مآخدنا علي الدراسة الهامة التي أنجزها فريق كبير من العلماء المتخصصين في التغذية، فإن ذلك لا يحول دون الإقرار بأهمية الحقائق المثيرة التي حفلت بها و بالمؤشرات الدالة التي زخرت بها. فقد شكلت المجلة الطبية البريطانية (THE LANSEک)، فريقا ضم سبعة وثلاثين عالما متخصصا ينتمون إلي 16 دولة من مختلف القارات، متخصصين في مجالات الصحة والتغذية والفلاحة والعلوم السياسية والبيئة ، اشتغلوا طيلة ثلاث سنوات في دراسة حول سبل ضمان التغذية السليمة، لما يفوق عشرة مليارات من سكان البسيطة في أفق سنة 2050، وهي الدراسة التي نشرت في السابع عشر من شهر يناير الجاري ، والتي أكدت أن التجاوزات المقترفة في التغذية والعاهات المترتبة عنها تشكل أحد أهم المخاطر المحدقة بحياة الإنسان، بما في ذلك الوفاة بسبب الأمراض الناتجة عن استهلاك السجائر والكحول والمخدرات. وتضيف هذه الدراسة أن إنتاج مختلف أنواع المواد الغذائية في العالم، يتسبب في إفراز 30 بالمائة من انبعاثات الغاز ، ويستنزف ما مجموعه 40 بالمائة من المساحات الأرضية، حيث إن 13 مليون كيلو متر من الأراضي في العالم مستغلة في الأنشطة الفلاحية ويتسبب في هدر 70 بالمائة من المياه ، وفي استهلاك 30 بالمائة من المخزون العالمي من الثروة السمكية. والمثير فيما توصل إليه هذا الفريق من العلماء والخبراء، يكمن في التدقيق بشأن التفاوتات الكبيرة والمهولة في توزيع الغذاء فوق الكرة الأرضية ، بحيث يؤكدون أن مليارين من سكان العالم (بما يقارب الثلث) يعانون من نقص في المغذيات الدقيقة، بيد أن 820 مليون شخص في هذا العالم يعانون من سوء تغذية خطير، وأن المواطن في الدول الغنية، التي تسيطر علي مصادر الثراء العالمي يستهلك ما معدله 3700 سعرة حرارية في اليوم الواحد، في حين ينخفض هذا المعدل في الدول الفقيرة والسائرة في طريق النمو إلي 2200 سعرة حرارية في اليوم الواحد ، وإذا كان المعدل العلمي الخاص باستهلاك السعرات الحرارية هو 2500 سعرة حرارية يوميا ، فإن الملاحظ أن المواطن في الدول الغنية يستهلك حصته اليومية الطبيعية، ويستحوذ علي جزء كبير جدا من الحصة الخاصة بالمواطن في باقي دول العالم ، فهو يعيش تخمة في هذا الصدد، بينما يتفاوت العجز في باقي البلدان ليصل إلي مستويات خطيرة في الدول الفقيرة ، حيث لا يجد المواطن هناك ما يسد به رمقه. وهكذا ينصح هؤلاء العلماء المواطن في دول أمريكا الشمالية مثلا، باقتسام حصته اليومية من اللحوم الحمراء مع ستة أشخاص آخرين في دول أخري، بما يضمن تلبية الحد الأدني من الحاجيات المسجلة في الكثير من مناطق العالم ، وبما يَضمن تغذية صحية سليمة للمواطن في دول أمريكا الشمالية ، لأن الإفراط في استهلاك اللحوم الحمراء يشكل بدوره خطرا حقيقيا علي صحة الإنسان ، باعتبار أن 2،4 مليار من سكان العالم، الذين يتمتعون ويستفيدون من إشباع حقيقي في التغذية هم أنفسهم مهددون بكثير من الأمراض الخطيرة، التي تتسبب فيها التخمة في التغذية من قبيل أمراض السكري وارتفاع الضغط واضطرابات القلب والأوعية الدموية والسرطان ، في حين يدعو فريق العلماء في دراستهم القيمة، إلي ضرورة مضاعفة الحصة الرئيسية اليومية من اللحوم الحمراء للمواطن الواحد، في منطقة جنوب غرب آسيا مرتين لضمان الحد الأدني من التوازن في التغذية ، وهذا يعني أن الفرد الواحد في دول أمريكا الشمالية، يستحوذ علي حصة ثلاثة أفراد من التغذية باللحوم الحمراء في دول منطقة جنوب غرب آسيا. ويكشف هؤلاء العلماء عن حقيقة مثيرة تفند الأطروحات التقليدية، التي تربط بين العجز المسجل في التغذية والنمو الديموغرافي الكبير في العالم ، والتي تري أن تراجع منسوب التغذية في الوجود يعود بالأساس إلي التكاثر السكاني المتسارع في الكون ، بينما يؤكد هؤلاء العلماء، أن الانفجار الديموغرافي ليس وحده المسئول عن النقص المستفحل في التغذية ، بل إنه يمكن رغم كل ذلك تلبية حاجيات سكان العالم من الغذاء، شريطة تعديل أنظمة وأنماط التغذية وإعادة توزيع الغذاء العالمي، بما يضمن العدل والمساواة بين جميع سكان العالم. كما أنه يمكن التخفيف من معدلات وطبيعة هذه الأمراض ، لأن تنظيم الغذاء في العالم سيساهم في تخفيض معدلات الوفيات العالمية، بما يصل إلي 20 بالمائة ، وأن تخفيض مخاطر الأمراض، خصوصا المزمنة منها يصبح ممكنا أثناء التقليل من استهلاك المواد الغذائية المضرة، خصوصا اللحوم الحمراء والسكريات بجميع أنواعها، واستبدالها بالإكثار من استهلاك الخضر والفواكه. الوجه الآخر من العملة، في قضية التوزيع العادل للغذاء في العالم، نجده في معطيات حديثة صادرة عن الأممالمتحدة، التي تفيد أن سبعة ملايين طفل يلقون حتفهم سنويا بسبب الجوع، لأن التوزيع الظالم للثروة الغذائية في العالم حرمهم الاستفادة من الحد الأدني من المواد الغذائية ، ويحدث ذلك في زمن ينتج فيه العالم ما يكفي لسد رمق كل سكان كوكب الأرض ، فالإشكالية لا تكمن في ندرة الغذاء ، فالعالم ينتج بسبب الثورة المعرفية والتكنولوجية والتطور الصناعي المذهل، ما يكفي لتحقيق تغذية متوازنة لجميع سكان الارض ، ويخلص العالم من الندرة الغذائية، ويقلص المساحة بشكل كبير بين إنتاج المواد الغذائية والنمو الديموغرافي المتسارع ، بل إن الإشكالية المستعصية تكمن بالأساس في التوزيع العادل لهذه الثروة، حيث يستحوذ جزء من سكان الكرة الأرضية علي نصيب الجزء الآخر من سكان هذا الكوكب ، وفي هذا الشأن يمكن أن يسيل حبر كثير ، ويجري حديث طويل دون أن نستوفي الموضوع حقه في التحليل والتفسير. • نقيب الصحفيين المغاربة