تعددت الوقائع التي اتخذت فيها موقفاً نقابياً مغايراً لموقف أقرب الناس لي في العمل وفي الانتماء السياسي، والعمل الحزبي أيام كنت منضوياً في أحد الأحزاب وبالصدفة فإن أقرب الناس لي في العمل وفي الانتماء السياسي هو الزميل يحيي قلاش! الذي استقبلته في مكتب القاهرة لصحيفة الخليج بعد أن بدأت فيه العمل إثر عودتي من الإمارات بشهور.. نحيف، فاحم الشعر.. متزوج حديثاً من الزميلة لبيبة شاهين، التي كانت قد سبقته للانضمام لفريق العمل بالمكتب. وكان ذلك منذ حوالي ستة وعشرين عاماً.. ومازلت ومازالوا يذكرون موقفي العلني المغاير لمواقفهم في إحدي دورات انتخاب النقيب. أكثر من ربع قرن استطاع فيها زميلي أن يجسد منظومة متكاملة من القيم، التي يأتي علي رأسها الأمانة والشجاعة والوفاء والصدق والدأب في العمل والإخلاص لما يعتقد أنه صحيح، سواء كان مهمة أو معركة أو خلافاً، ولدرجة قد تبدو للبعض عصبية مستفزة. عشرات من الزملاء عملت معهم، ومعي يحيي قلاش، علي مر هذه السنين الطويلة، وخبرتهم مهنياً وأخلاقياً وخبروني وتعددت تجاهي آراؤهم، وتعدد رأيي تجاههم، ومنهم كثيرون أصبحوا الآن نجوما في الصحافة والإعلام، ناهيك أيضا عن عشرات من أصحاب القلم أهل الرأي من كبار الكتاب والمفكرين والباحثين.. ووحده استمر في موقعه متحملا صعوبة التعامل مع شخص حاد المزاج لدرجة العنف أحياناً مثل العبدلله.. استمر ولم يتنازل لحظة واحدة عن كرامته وكرامة العاملين معنا، ولم يوافق مرة واحدة علي ما هو مضاد لقناعته ، ولم يختلس لنفسه عملاً أو سبقاً أو جهداً لم يبذله! نعم.. تتفاوت الكفاءة المهنية بين صحفي وآخر بتفاوت التخصص الجامعي وتفاوت الخبرة وتفاوت الفرق بين من تلقينا عنهم فنون ومهارات وتقنيات الصحافة من زملاء أقدم وأساتذة أسبق، ولكن تبقي الأساسيات التي يجب أن تتوفر في القماشة الصحفية، وهي أساسيات يعلمها الجميع.. وللأسف لا يراعيها كثيرون ويتجاهلها أكثر!.. وخلال ما يزيد علي ربع القرن كان زميلي يحيي قلاش ومازال يحترم هذه الأساسيات ويمارسها ويبرع في مهمته بإدارة التحرير. سيقول القائلون : طبعاً ومن سيشهد "للغزال" غير أمه.. المثل يذكر واحداً آخر غير الغزال وأقول إن الأمر أكبر وأوسع من هذا المنظور الضيق، فالأمر ليس أمر عصبية زمالة في العمل أو انتماء فكري وسياسي متقارب، ولكنه أمر نقابة صحفيي مصر.. أكرر مؤكدا.. "نقابة".. "صحفيي".."مصر"!.. وهي مرحلة دقيقة حاسمة، لأن مصر كلها تعيش هذه المرحلة بعيداً عن الشعارات المكررة المستهلكة وكلنا نعلم مدي صحة ما أقول، وبالتالي فليست نقابة الصحفيين وحدها التي تواجه هذا الوضع، وإنما كل التكوينات السياسية والنقابية والمدنية أو الأهلية! وبحكم أنني تجاوزت الخامسة والستين بعدة شهور، فإن قلقي من وصول يحيي قلاش لموقع النقيب، هو أنه كأستاذه وأستاذنا وصديقي الحميم كامل زهيري مسكون بهموم أساسية، ربما لا يري غيرها، وهي أن تبقي النقابة نقابة يعني ألا تتحول إلي ناد أو جمعية تابعة للشؤون الاجتماعية.. أي أن يكون التركيز والعمل والاعتراك إلي آخر قطرة حبر ونقطة دم وحبة عرق وومضة فكر علي استقلال النقابة وتفاعلها مع قضايا وطنها وفي مقدمتها قضايا الحريات وتلافي السقوط في التبعية لنظام أو حكومة أو حزب أو جماعة.. وأن تكون عضويتها كالجنسية.. أي أن تكون وطنا يعيش فيه وينتمي إليه مواطنون وتكون المواطنة هي الأساس! وإذا كان النقيب مسكوناً بهذا الهم، فإننا يجب أن نطالبه من هذه اللحظة بأن يفسح المجال للجوانب الأخري التي من أجلها نشأت النقابات، وهي مصالح أعضائها أو بالبلدي "معايش" أعضائها من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخدمية إنني أعتقد أن ارتفاع وتيرة الاهتمام لدي النقابيين المهتمين بقضية استقلال النقابة وحمايتها من الأخطار التي سبق وأشرت إليها، كان مرتبطا بنوع نظم الحكم التي حكمتنا قبل 25 يناير 2011! ولأن الثورة حدثت وتنمو ولن يستطيع أحد أن يهدم ما تنجزه وفي مقدمته الحريات النقابية، فإن الوقت قد حان لأن يكون التركيز أكثر قليلا علي المصالح المباشرة للصحفيين.. يعني عندما أسأل النقيب القادم يحيي قلاش عن مشاريع الإسكان والعلاج والتدريب والتصييف ومعارض السلع لا يقلب لي سحنته ويبخ في وجهي التقريع المعتاد:" شوف يا أخي.. بنتكلم في استقلال النقابات والحريات..والأخ جاي يتكلم في الملابس الداخلية والمصايف"!! نعم ليحيي قلاش نقيبا.. ولكن بالمعني الشامل المتوازن بين "هذا" و"ذاك".."هذا أي القضايا الكبري المهمة.. و"ذاك" أي المصالح الكبري للأعضاء حتي وإن كانت فانلات وشرابات.