أصبحت تركيا قبلتنا في طريق الإصلاح والتنمية والديمقراطية. فالجميع ينظر إليها باعتبارها النموذج القريب جداً إلي ظروفنا وتركيبتنا الاجتماعية ومكوناتنا الثقافية وموقعنا الجغرافي. كذلك فإن تركيا كانت تعاني - مثلنا الآن- قبل عشر سنوات لكنها استطاعت أن تفعلها وتقفز فوق حاجز المستحيل. فماذا حققت تركيا خلال عشر سنوات فحسب؟ انطلقت من نقطة الدولة المكبلة بالديون والمحاطة بالفساد من كل جانب، التي تعاني مشكلات اقتصادية طاحنة، لتصل الآن إلي دولة تطمح في أن تكون القوة الاقتصادية العاشرة علي مستوي العالم!. إذن فليس غريباً أن تحظي زيارة رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا بكل هذا الاهتمام الشعبي والإعلامي والرسمي.فنحن نتطلع في هذه المرحلة من تاريخنا إلي أن نقترب من هذا النموذج : »التجربة التركية«. لذلك علينا أن نتذكر أن اردوغان الذي حقق هذا النجاح المبهر لبلاده لم يسر في طريق ممهد ولم يكن يتبني في بداية عمله السياسي نفس الأفكار التي حقق من خلالها تلك الطفرة. كيف؟ القارئ لتاريخ وسيرة حياة اردوغان سوف يتوقف بكثير من الدهشة عندما يعلم أن هذا السياسي »الزعيم« حُكِم عليه بالسجن لمدة عشرة أشهر، غير أنه أطلق سراحه بعد أربعة أشهر. ولكنه، بسبب سجله الجنائي، حظر عليه الترشح في الانتخابات أو شغل المناصب السياسية. كان ذلك عام 1998 والسبب هو إدانته بتهمة التحريض علي الكراهية الدينية ، وكان الاتهام مستندا إلي قراءته علنا لقصيدة شعرية وردت فيها السطور التالية: "المساجد ثكناتنا، والقباب خوذنا، والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا ". وإذا انتقلنا من هذا الفصل في حياته إلي أحدث الفصول.أقصد تعريفه العميق والمركز لمعني "العلمانية" فسوف نكتشف قدرة الرجل علي إعادة انتاج أفكاره بما يتناسب مع الهدف الأسمي الذي يتطلع إليه وهو الصعود بتركيا إلي مصاف الدول المتقدمة ووضعها ضمن دول العالم الأول. في الحقيقة أعجبني تعريف اردوغان للعلمانية. وهي وجهة نظر قائد سياسي أدرك أن الدين لله والوطن للجميع. فقد رد في الحديث التليفزيوني مع مني الشاذلي علي موقفه من العلمانية، فقال: أتمني أن يري المصريون معني الدولة العلمانية جيداً فهي لا تعني الدولة "اللادينية" وإنما تعني احترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينه. وأضاف اردوغان أن علي المصريين ألا يقلقوا من هذا الأمر وعلي المكلفين بكتابة الدستور في مصر توضيح أن الدولة تقف علي مسافة واحدة من كل الأديان وتكفل لكل فرد ممارسة دينه، إن العلمانية لا تعني أن يكون الأشخاص علمانيين بالضرورة . فأنا مثلاً لست علمانياً لكنني رئيس وزراء دولة علمانية. وأنا شخصياً أري في كلام اردوغان مفتاحاً أساسياً لتقدم أي أمة وانطلاقها إلي آفاق المستقبل، لذلك تعجبت بشدة لموقف الجماعات الإسلامية المحتفي بزيارة اردوغان في البداية ثم الانقلاب مائة وثمانين درجة عليه لمجرد أنه قال كلام »حقيقي« لكنه لم يرق لهم، وهذا في رأيي يعبر عن التشدد والجمود وعدم القدرة علي الاستماع إلي الآخر ومحاولة فهم ما يقول. إن المرونة يا سادة هي أحد عناصر الذكاء الإنساني -حسب دراسات نفسية وطبية- والانسان الذي يعيش حياته كلها أسيراً لفكرة واحدة لا تتغير أبداً ينتمي إلي تلك النوعية من البشر فقيرة الذكاء.. ضيقة الأفق.. غير القادرة علي ابتكار رؤية ثاقبة تقلع بها إلي المستقبل.