رسالة شديدة الايجاز من أبناء مصر المقاتلين، لملايين المصريين حيثما كانوا: »افخروا».. ألا يحق لكل من عاش هذه اللحظات أن يفخر؟ (1) »شبنا قبل الأوان»! جملة تلخص حال جيلي عقب نكسة 67. في اللحظة التي خرج فيها عبدالناصر يكشف فداحة ما حدث، ويعلن مسئوليته، وتنحيه في جملة واحدة، جري الزمن سريعاً، سريعاً، هرمنا في دقائق. نعم؛ كان الرد الشعبي ذكيا، رفض المصريون التنحي، لم يتمسكوا بقائد مهزوم، لكنهم ردوا علي من تآمروا واعتدوا: - ارادتنا لن تلين، وهاماتنا لن تنحني. رغم ذلك كنت ألمح إنكسارا في العيون، وشيبا بغير مشيب. موجات المهجرين من مدن القناة ضاعفت سكان مدينتي. عرفنا نظام الفترتين في المدارس، إذ تم تخصيص عدد منها لسُكني من حولت النكسة منازلهم أطلالاً. سواتر أمام البيوت، اللون الأزرق يكسو النوافذ، وصافرات الانذار تزأر صباح مساء. باختصار، انقلب الحال إلي حال مغاير، لم يعد هناك مانفخر به! (2) وسط العتمة، برزت من الذاكرة الطازجة تلك الكلمات: »النكسات عوارض في حياة الأمم العظيمة». بسنواتي العشر تأملت كل كلمة، أول الجملة اشارة للنكسة، ونهايتها تأكيد علي عظمة الكيان الذي أنتمي إليه. ثمة أمل، ما حدث أشبه بجملة اعتراضية في حياة الوطن.وصدق ما جال بخاطري. ماهي إلا أيام قلائل، وبالتحديد في الأول من يوليو 67، تتصدي قوة صغيرة الحجم، عالية الهمة من الصاعقة المصرية لمحاولة اسرائيلية استهدفت بورفؤاد، ونجحت القوة المصرية المحدودة في صد مدرعات العدو المسنودة جواً، لتصبح معركة رأس العش اشارة البدء لحرب الألف يوم، أو حرب الاستنزاف التي تعد -بحق- الجولة الرابعة في الصراع العربي/ الصهيوني. بدأ العد العكسي للثأر، بأسرع مما يتصور أكثر المتفائلين حولي، وكان يوماً تبادلنا فيه التهنئة، يوماً للفخر. قلت، وقال معي من شابوا قبل الأوان: أول الغيث قطرٌ ثم ينهمر، ولكن كحجارة من سجيل فوق رؤوس الاعادي. (3) بدأ مشوار رفض الهزيمة.. لا استسلام مهما حدث، كان الدرس الأول الذي ادركناه- كجيل- رغم حداثة أعمارنا وخبرتنا بالحياة، فمابال الكبار، لكن أكثر من وعوا الدرس الرجال البواسل في الخنادق، أولئك الذين انخرطوا في معركة إعادة بناء الجيش. توالت البشائر، المانشتات الحمراء »تلعلع» فوق رؤوس الصفحات الأولي لجرائدنا الثلاث- الاخبار، الأهرام، الجمهورية. فما كان غيرها فوق »فرشات» الصحف. المدفعية تقصف دون هوادة.. الطيران يهاجم تشكيلات العدو.. القناصة يزرعون الرعب في قلوب جنوده. زوارق صواريخ البحرية المصرية تغرق المدمرة إيلات. تاريخ لن أنساه، لا أنا، ولا من عاصروا تلك اللحظة التي انقلبت فيها نظريات القتال البحري عالمياً بعبقرية مصرية. ألا يحق لي، ولكل من عاشوا هذه اللحظات، بفارق أسابيع أو شهور قلائل تفصلنا عن النكسة، ألا يحق لنا أن نفخر؟ (4) ومن الصمود، إلي الدفاع النشط، ثم التحدي والردع، تصاعدت حرب الاستنزاف، حتي كان لقواتنا السيطرة المطلقة علي طول خط المواجهة، وفي قلب هذه المرحلة، استشهد الفريق رياض رئيس أركان حرب الجيش، في نقطة متقدمة لايفصلها عن العدو إلا مياه القناة. اذكر هذه الحظة جيداً، وكم تملكت أبناء جيلي رغبة عارمة في الانتماء لجيش بلدنا، كل واحد منا تمني أن يكون مثل الفريق رياض، ضابط كبير يلقي ربه شهيداً فداءً لوطنه، حتي أن رغبات من نوع: أريد أن أكون طبيباً أو مهندساً، توارت. خاض الرجال أطول جولات الصراع علي مدي تاريخه، وكنا شهودا علي كتابة صفحات الفخر بدماء عزيزة لم يبخل بها اقارب، أبناء، وأخوة، وآباء، وجيران لاسرتي، والعائلات المحيطة، وكان ذلك حال كل بقعة في الوطن. رسالة شديدة الايجاز من أبناء مصر المقاتلين، لملايين المصريين حيثما كانوا: »افخروا». (5) انقبض قلبي، متجاوباً مع قلوب من حولي، وصدي انقباضات كأنها دوامات في بحر لجي عميق. عندما سمعنا، وقرأنا عن وقف إطلاق النار شعرنا بغصة: لماذا؟ وكيف؟ و.. و.. وعشرات الاسئلة ضاقت بها الصدور، بعد أن قرعت رؤوسنا كمطارق هائلة. باعدت فصول حرب الاستنزاف بيننا وبين لحظة النكسة. كنت بحاجة لسنوات حتي أدرك أن الرجال علي الجبهة انجزوا أكثر مما ينبغي القيام به، بالمعايير العسكرية العادية، وأنهم قاموا -كما شهد العدو قبل الصديق فيما بعد- بأفضل مما يجب أن يفعلوه، لقد فعلوا ما لم يسبقهم إليه جيش. ثم أن النكسة أصبحت شيئاً من ماض، أبداً لن يعود. »ما أخذ بالقوة لايسترد بغير القوة». لم يكن مجرد شعار أطلقه عبدالناصر، إنما كان مبدأ تم تفعيله. ورحل عبدالناصر وكان رحيله فاجعاًِ، ولم يكن لنا إلا الامتثال لمشيئة الله، موقنين أن حياة الأمم لايوقف مسيرتها غياب قائد، لاسيما إذا كانت بصدد استكمال مسيرة الثأر، واسترداد الكرامة حتي يحق لنا أن نفخر. (6) .. ومضت ثلاث سنوات ثقيلة علي القلوب قبل ان نبلغ لحظة الخلاص. من 5 يونيو 67 وحتي 5 اكتوبر 73، ست سنوات وبضعة شهور بحساب الزمن العادي، لكنها ست قرون بالنسبة لي ولكل مصري، لاسيما جيلي الذي كان له النصيب الاصعب. وبين لحظة الكابوس الذي اغتال احلامنا، ولم يخفف من وطأته سوي حرب الألف يوم، لتليها سنوات انتظار عجاف، إلي لحظة تحول قرار السادات الجسور بالعبور، كان لكل الاشياء مذاق مختلف. تحقق الحلم الذي طال انتظاره أخيراً. بيانات الحرب، أجمل ما استمعت إليه من كلمات، إنها اعذب ما في العمر كله، البيانات العسكرية المتوالية، بمثابة شهادة ميلاد جديدة لي، ولكل مصري، بل لكل عربي، ثأر الابطال -بعد طول انتظار- ممن تصوروا واهمين ان لاقيام للعرب، ولانصر لهم، ولو بعد عشرات السنين! نحن شعب لايعرف المستحيل، وجيشنا حذف الكلمة من قاموسه للأبد، واتذكر جيداً اعتراضي علي وصف أحد اساتذتي في المدرسة علي وصف ماحدث بأنه »معجزة». تجرأت، واعترضت: لا ياأستاذ، بل العمل الدؤوب، والتخطيط المحكم، الارادة والاصرار والعزيمة والتلاحم بين الجبهة الداخلية والجيش. انها كل ذلك وأكثر.. لذا يحق لي ولكم أن نفخر. (7) انتهت أسطورة الجيش الذي لايهزم. انكسرت نظرية الأمن الاسرائيلي للابد.. قطعنا الذراع الطويلة -سلاح الطيران- التي طالما تباهي ولوح وبطش بها الصهاينة. كنت مأخوذا مما أسمع وأري، تجاوزت الزهو والفخر إلي مشاعر احترت في وصفها، وعجزت الكلمات عن التعبيرعن جوهرها. حتي عندما حاول شارون أن يسرق فرحتنا، لم اشعر بأي خطر، صدقت القيادة المصرية التي وصفت الثغرة بانها عمل مسرحي أو تليفزيوني (مجرد شو). ومرة أخري، تشن مصر حرب استنزاف غيرمعلنة علي قوات العدو التي عبرت للغرب، ودفعت الثمن غالياً، ليعرف الصهاينة مرارة الهزيمة للمرة الأولي منذ قيام كيانهم الغاصب. 12 أسبوعاً من »القتال الصامت»،كما وصفه الضابط والجنود من الاقارب والجيران خلال اجازاتهم الميدانية الخاطفة، أحدهم أكد: الآن نلقنهم درس عمرهم، لن ينسوا مهما طالت أعمارهم حجم خسائرهم في الارواح والمعدات. أنها دعوة مفتوحة لأن أزهو وأفخر مادمت حياً. (8) وإذا كان ما انجزه الابطال علي جبهات القتال مدعاة للفخر والزهو، فإن روح اكتوبر لم تقتصر علي تلك الجبهات. في الحياة اليومية لكل المحيطين بي -قبل 45 عاماً- ثمة تحولات رائعة. سرت في النفوس حالة من السعادة الممزوحة بالرضا، والتصالح مع النفس، ومع كل المحيطين لا خصام، لا شجار،...،... الأكثر إثارة أن صفحة الحوادث اختفت من الصحف، ليس لضيق المساحة، ولكن لأن المصريين -دون استثناء- تطهروا، سمت أرواحهم، واستيقظت ضمائرهم، فلم يعد للجريمة مكان. نحو شهر خلت فيه الصحف، ومحاضر أقسام الشرطة، من الجرائم. ألا تدعو تلك الحالة من السمو والتطهر للفخر؟! (9) لم اقصد بهذه السطور سرد وقائع، أو مشاهدات عايشتها، وامتزجت بكياني- حتي اليوم- ولم أطمح إلي رسم لوحة تدعي الشمول- في هذه الرقعة المتواضعة، لأحداث مضي علي وقوعها عقود، وإن كانت دائما هي الأقرب لقلبي وعقلي. في هذه السطور حاولت -قدر استطاعتي- أن أكثف لحظات بكل العمر، كما شاهدتها وسمعت من بعض ابطالها، وانطباعاتي التي عايشتها، ربما امتزجت بوعي -أو بدون وعي- بقراءات ومناقشات أثناء -أو بعد- حدوثها. لا أدعي أن عواطفي كانت محايدة فيما ذكرته، إذ عندما يتعلق الأمر بالوطن، وبلحظات مصيرية، لاشك أنك ابن انتماءاتك، وإن حرصت علي النظر بعين أمينة، فمن ذا الذي لاينحاز لوطنه ويفخر بمجده؟ (10) يظل سؤال يلح بعد خمسة عقود تقريباً من النكسة، و45 عاماً علي النصر: أين تلك الروح الوثابة المتحفزة الرافضة للهزيمة الساعية للنصر، الراغبة في أن تجد ما نفخر به حقاً بكدها وعملها، لا بالنظر فقط إلي صفحات التاريخ قريبه وبعيده؟ لماذا لا يسعي الابناء والاحفاد للمساهمة في صنع ما نفخر به معهم اليوم وغداً وبعد غد؟