اتذكر جيداً ذلك اليوم الذي اصطحبني فيه استاذي الكبير الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم الاسبق لزيارة الشيخ في مكتبه بمشيخة الازهر، وكانت إحدي صحف الصباح الكبري تحمل مقالاً جارحاً الي حد بعيد يهاجم الشيخ الجليل بشكل يثير حفيظة اي مسلم تعلم في الازهر ويعرف مقدار شيخه بل إن رجل الشارع البسيط لم يكن ليرضي أبداً أن يتعرض رمز المسلمين وإمامهم الأكبر لهذا القدر من التجريح مهما كان السبب، ولعلي ساعتها ايقنت ان هذا الشيخ يتحمل فوق طاقة البشر فعلاً، وأن هناك مسافة بعيدة بين فكره وقناعاته وبين فكر من يديرون ماكينة الشتم والقذف بسبب او بغير سبب، وأخذت أتأمل ملامح الشيخ وهو يعرض القضية الخلافية التي من أجلها تعرض لهذا الهجوم غير الرحيم والمنطوي علي كثير من التجني علي شخص الشيخ، كانت حمرة وجهه تخفي كثيراً من الاسي والالم، وبصوت مبحوح مجهد قال الشيخ في وقار وهدوء: أنا فقط أريد أن اوضح للناس الحقيقة ولن اجرح أحداً في ردي مهما كان الامر، وتأكدت أنه أيضاً رغم ما اشيع عنه وروج له خصومه من سرعة انفعاله وسهولة استثارته، تأكدت أنه اقرب الي الحلم والسكينة حين يكون الأمر متعلقاً بقضية فقهية تمس المسلمين فإنه غيرذلك تماماً، وهو مدافع بالحجة والبرهان عن منطقه ورأيه الفقهي لا محالة، وامتدت الايام فإذا بي مع الشيخ في سفره طويلة، بدا وهو انشط الموجودين وهو ابهاهم وأكثرهم حضوراً لاحداث ومناقشات المؤتمر الذي كنا نحضره »كوالالمبور«، وهناك كان الماليزيون في حالة افراح وبهجة لم ارها من قبل احتفاء بوجود شيخ الازهر بينهم، وشهدنا هذا الحفل المهيب الذي كرم فيه الامام الاكبر محمد سيد طنطاوي ومنح الدكتوراة الفخرية واستقبل استقبالاً شعبياً وددت لو أن هذه الرحلة طالت حتي يعلم الذين أداروا للأدب ظهورهم، كيف يكون توقير المسلمين لامامهم مهما بلغ الخلاف مبلغه، هناك رأيت في الشيخ الجليل روحاً جميلة لينة، كانت فرصة تفيض بانسانيات الشيخ وتوهج الايمان في قلبه، لقد كنت مشفقاً عليه أحاول، أن ادعوه ليستريح فيأتي، خطب الجمعة في أكبر مساجد »كوالالمبور« وتحول ذلك اليوم هناك الي عيد كبير، لقد كان الشيخ الجليل صورة فائقة لمفكر اسلامي سبق عصره، وأنجز نتاجه الفكري الوفير دون أن يجرح ديناً أو مذهباً، ولم يسفه رأياً اختلف معه، وكان يتقبل الآراء التي حوله ويناقشها ولا يدع مجالاً إلا وأكد علي أن الاختلاف رحمة والتنوع هبة من الخالق العظيم واذكر أنه في موضوع النقاب الاخير عاد إلي الجامعة، واستمع لآراء اساتذة الجامعة، وجلس معنا في مجلس الجامعة ساعات طويلة فلم يصادر رأياً بل تعامل مع الموقف بنوع من المراجعة الذكية، حتي أن الدكتور أحمد الطيب نفسه وهو أحد تلامذة الشيخ بل كان الشيخ يعتبره واحداً من ابنائه، الدكتور الطيب نفسه عرض فكرة مخالفة بعض الشئ لرأي الشيخ ورأي ان هذه القضية تعالج بالاقناع والتدرج فيه ولا تعالج بالقرارات الفوقية، وأكاد أجزم انالشيخ اقتنع ولم يبد أي ضيق بهذا الرأي أو غيره من الآراء التي عرضت في الجلسة، لقد كان الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي مجاهداً بالكلمة والعلم والمال وبصحته التي افناها لخدمة الاسلام والمسلمين، رحمه الله رحمة واسعة كما احسن خاتمته ليرقد بجوار من أحب في أحب بقاع الله الي الله. [email protected]