لا تزال الأمة الإسلامية تتعلم الكثير من الدروس الحضارية من رحلة الهجرة النبوية الشريفة، دروس في محبة الأوطان والغيرة علي حريتها واستقلالها، ودروس أخري في الارتكان إلي تدريب الشباب علي الوفاء واتخاذهم عدة للنصر والتمكين، ودروس في كيفية الهجرة إلي المستقبل والنظر إلي الأمام.. نبحث في هذه الإطلالة عن أهم الإشارات في تلك الرحلة المباركة: الغيرة علي الوطن يؤكد د. عبد الراضي محمد عبد المحسن عميد كلية دار العلوم جامعة القاهرة أن هجرة النبي صلي الله عليه وسلم التي أصبحت حدثا مركزيا تأسس عليه تاريخ أمة وحضارة قامت علي وحي رسالة السماء في نسختها الأخيرة، لم تكن حدثا ارتجاليا عشوائيا أو قرارا عفويا اجتهاديا أو اضطراريا، إنما كانت رسالة مستقلة تضمنت الكثير من التوجيهات والإشارات، وربما يكون الوطن من أظهر تلك العلامات المستفادة من الهجرة النبوية، فرغم أن الهجرة لم تكن تتجاوز كثيرا حدود الهجرة الجغرافية المكانية، لأنها لم تكن هجرية من مراكز بدوية إلي أخري حضرية، بل كانت من مركز حضري إلي آخر حضري، ولم تكن هجرة من واد مقفر إلي بلاد ذات حضارة وثقافة أو العكس، ولم تكن كذلك هجرة من أرض الوثنية إلي بلاد إيمانية السيادة والنظام مثلما كان الأمر في الهجرة إلي بلاد الحبشة ذات الحكومة والسلطان الإيماني. ويضيف د. عبد الراضي أنه كان الطبيعي ألا يستشعر المهاجرون غربة في الموقف أو الحدث لأنها مواقف ألفوها وحوادث اعتادوها، لكن الذي وقع كان شيئا آخر مختلفا تماما عن المألوف والمنتظر، فالذي تغشي الجميع وتسيد الأحداث كان لوعة فراق أحب الأشياء وأجملها وأثمنها وأغلاها وأعلاها قيمة ألا وهو الوطن الذي جعل النبي صلي الله عليه و سلم يقف علي مشارف أم القري حزينا متألما مودعا إياها قائلا (والله إنك لأحب البلاد إلي ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت)، فالمكان أو الرقعة الجغرافية التي شهدت مولد الإنسان وفيها تكونت مشاهد حياته، وتأسيس ذكرياته، ونمت مشاعره وإحساسه ما بين الألفة والمحبة، ما بين الأفراح والأتراح، ما بين الخوف والرجاء والآمال والأحلام ما بين نفي الجهالة المعرفية واكتساب العلوم المنطقية والتجريبية التي بها تتحقق المعاني الإنسانية، ذلك المكان يصبح مكونا أصيلا من مكونات الوجدان الإنساني ومصدر سكينته ونبع حنينه، وذلك الارتباط الوثيق بين الإنسان والمكان هو من جعل ذلك الارتباط يتغلب ويسيطر علي أي شعور آخر يغري الإنسان، وهو ما جعل الروح ثمنا رخيصا يقدمه الإنسان فداء للوطن عندما يدعوه الداعي إلي ذلك، وهو ما يجعل الغيرة علي الأوطان واستقلالها وحريتها شيمة للكرام ورمزا للعزة وسببا لنيل الشهادة وثوابها الحياة الخالدة في أعلي عليين، فمن مات دون وطنه فهو الشهيد بامتياز. هجرة جديدة يوضح د. محمد محمود الجبة، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر أن الهجرة في أول الدعوة الإسلامية كانت مفروضة إلي المدينةالمنورة وبعد فتح مكة قال صلي الله عليه وسلم »لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، أي لا هجرة بعد فتح مكة منها، ولكن جهاد في سبيل الله ضد أعداء الله من نفسٍ أمارةٍ بالسوء، وشيطانٍ مريدٍ، وفئةٍ لا بغية لها إلا الصد عن سبيل الله سبحانه، فضرب لنا الأنصار مثلا فريدا من هجرةٍ جديدةٍ، ظهرت فيهم لما كانت غزوة حنين، ونفل الله نبيه صلي الله عليه وسلم من الغنائم ما نفل، فأعطي المؤلفة قلوبهم من قومه عطاء من لا يخشي الفقر، مائة بعير، ولم يعط الأنصار ولا شعرة واحدة من سنام بعير، كان الأنصار من أهم أسباب نصر المسلمين يوم حنين، فقد انهزم المسلمون أول الأمر، ولكن شجاعة الأنصار وسرعة التفافهم حول النبي- صلي الله عليه وسلم- أعادت إلي المسلمين تماسكهم وإقدامهم، فتحقق النصر الكامل لهم. الاعتماد علي الشباب ويشير د.عبد الفتاح أحمد أبوكيلة، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر، إلي أن الهجرة النبوية المباركة نجحت بفضل الله ثم بالتخطيط الجيد والاعتماد علي الشباب؛ والذين هم أمل كل أمة وعمودها الفقري؛ والذي يشكل الأمل في التقدم والمستقبل إذا ما أحسن الاستفادة منهم واستغلال طاقتهم وإمكانياتهم، لقد أعد النبي خطة الهجرة واعتمد في تنفيذها ونجاحها علي طاقة وتحمل وذكاء الشباب، وكانت الخطة تنقسم لمرحلتين، الأولي: مرحلة ما قبل الهجرة وكانت مرحلة تمهيدية؛ حيث أرسل النبي للمدينة المنورة مصعب بن عمير وكان من أغنياء قريش وخيرة شبابها ممهدا لهجرته الشريفة؛ فكان داعية المدينة ومقرئها، وأسلم علي يديه خيرة الصحابة من الأنصار والذين كانوا بعد ذلك في شرف استقبال النبي صلي الله عليه وسلم عند هجرته. ويتابع د. أبو كيلة أن المرحلة الثانية كانت لتنفيذ خطة الهجرة للمدينة المنورة وذلك بعد تهيئتها لاستقباله صلي الله عليه وسلم وقد كان توزيع الأدوار علي الشباب فيها توزيعا متقنا وبارعا. الأخذ بالأسباب أما الشيخ محمد الجوهري، من علماء الأوقاف، فيشير إلي أن أهم الدروس الواجب الانتباه إليها من الهجرة الشريفة ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل علي الله، فالرسول صلوات الله عليه أبقي أمر الهجرة سرا واستعان علي أمره بالكتمان، ثم استخلف أحب الناس إليه علي بن أبي طالب لينام في فراشه الشريف ليرد الأمانات إلي أهلها وليموه علي المشركين، وكذلك اصطحب صديقه الأقرب إليه أبا بكر الصديق فقط في هذه الرحلة، مع الاستعانة بأهل الخبرة والمهارة في الطريق وهو عبد الله بن أريقط؛ وكلها دروس نبوية صالحة في كل زمان.