أنت منذ الآن غيرك هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونري دمنا علي أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. وهل كان علينا أن نكشف عن عوراتنا كي لا تبقي حقيقتنا عذراء »عارية» كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء! أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب علي غيرك! أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع! أيها الماضي! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك! أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف. أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوي عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل! محمود درويش هكذا تحدث الشاعر عن الحقيقة وأساطير الوهم وغطرسة الكذب، ولقد جاء في إحدي الأساطير »أن الحقيقة والكذب التقيا ذات يوم فقال الكذب للحقيقة: إنه ليوم جميل فدعينا نستمتع به معاً. نظرت الحقيقة حولها تستطلع في ريبة، فمنذ متي تحدث الكذب بصدق؟ تلفتت حولها فإذا بالسماء صافية، وأشعة الشمس حانية ونسمة الهواء نادية وزهور الزنبق والبسلة في ألوانها الزاهية، فقضت وقتا طويلا بصحبة الكذب حتي كادت أن تأنس له. وفي الطريق بادرها: أنظري الماء في البئر رائعا، فلنستحم سوياً. لمست الماء، فوجدته بالفعل رائعا، خلع الاثنان ثوبيهما ونزلا للاستحمام في البئر. وفجأة، خرج الكذب من البئر وارتدي علي عجل ثوب الحقيقة وركض بعيداً وضحكاته تملأ أرجاء المكان. خرجت الحقيقة الغاضبة من البئر، وركضت وراءه لتسترد ثوبها وتستر نفسها، لكن البشر في كل مكان ذهبت إليه راكضة نظروا إلي عري الحقيقة وأشاحوا بوجوههم في غضب واستهجان. عادت الحقيقة المسكينة إلي البئر واختفت للأبد من فرط خجلها. ومنذ ذلك الحين، يسافر الكذب حول العالم مرتديا ثوب الحقيقة القشيب، فيلبي أغراض المجتمع ويخاتل الجميع، بينما يرفض الناس أن يروا الحقيقة عارية». إنها حكمة التجربة الإنسانية أودعها الناس عالم الأساطير »الميثولوجيا» ولعلها تمثل المحاولات الأولي للفكر الإنساني في بداياته التي كانت محدودة تخلط الوعي باللاوعي للتعبير في مسيرتها عن تخيلات الناس وانطباعاتهم عن الكون والحياة والطبيعة القاهرة التي تصوروا أن محركها الأساس هو الآلهة والأبطال. من هنا فالأسطورة رؤية مختصرة وفلسفة بدائية وقناعات مبتسرة ومواقف وتجارب وصراعات حاول فيها الإنسان في بداياته القديمة أن يفسر ويشرح ويتمني ويتخيل، وأن يعطي الحكمة في كل ما يعيشه ويراه ويكابده ويتطلع إليه. ولا يمكننا أن نعتبرها عطاء معرفياً يمكن الركون إليه، والتأريخ من خلاله، فلا نحن نعرف من كتبها ولا متي كتبت ولا يمكننا أن نعزوها لعقل جمعي ساد في فترة معينة، وإنما لضمير جمعي كانت قدرته علي التعبير والحلم والتخيل متناسبة مع واقعه البسيط، فلم يكن العقل البشري في تلك الأيام الغابرة يمكن التعويل عليه، لذلك جاءت الأسطورة دائماً في تعبير حسي انطباعي، ولم تعتمد علي أية منهج علمي فلم تكن قواعد العلم ومناهجه قد وجدت بعد. كذلك نحن لا نعرف هل كان الضمير الجمعي الذي أنتجها يفكر بالطريقة التي نتصورها عنه الآن؟ وفي هذا يقول د. ماكس موللر المستشرق البريطاني من أصل ألماني (1823- 1900): »إن الإنسان البدائي لم يكن يفكر كما نفكر نحن، بل ولم يفكر بالطريقة التي نتصوَّر نحن الآن أنه كان يفكر بها أيضًا». وفي تقديري أن الأسطورة ربما شكلت لمجتمعاتها في تلك العصور قواعد الأخلاق والدين الذي لم يكن موجوداً بعد إلا في رموز وتقاليد وطواطم. ويري البعض أن الأسطورة تختلف عن الخرافة، فهي معالجة شعرية خيالية لمادة تاريخية، تظهر في نص أدبي وأبيات شعرية. وقد قام »هوميروس» الشاعر اليوناني بتدوين - وليس تأليفا - معظم أساطير عصره في الإلياذة والأوديسة. والأسطورة تعبر عن نفسها بالمبالغة تارة، والإعجاز تارة أخري، وهي تنزع نحو التشخيص والتجسيم والتمثيل الحسي، ومن هنا تتخذ الآلهة في ضوء الأساطير مظهرًا إنسانيًا » حيث تحب وتكره وتدخل في معارك وصراعات وأحياناً تنجب، وتنتصر وتهزم». علي أن المفارقة في عالمنا هذا وأيامنا تلك أننا ورغم ما قطعه العقل الإنساني من أشواط في عالم الارتقاء والتطور مازالت تحكمنا أساطير وأكاذيب، في عالم الزيف الذي راكمه الكذب حولنا في عوالم الاقتصاد والاجتماع والسياسة والعلم والفن والأدب والعلاقات الدولية وأنظمة الحكم وحتي في الدين، بينما لاتزال الحقيقة عارية.