برلماني يقترح إعادة النظر في الحد الأقصى للأجور    الأمين العام المساعد للبحوث الإسلامية يوضح للشباب مقومات الشخصية المصرية    ارتفاع أسعار السمك في مطروح اليوم الأربعاء    الدولار يواصل التراجع ويصل إلى مستوى 47.5 جنيه بالبنوك    مجلس الوزراء يوافق على إنشاء ميناء تخصصى دولى سياحى بمدينة رأس الحكمة الجديدة    30 جنيهًا للعبوة 800 جرام.. «التموين» تطرح زيت طعام مدعمًا على البطاقات من أول مايو    وزيرة البيئة: مشروعات الهيدروجين الأخضر تحقق استثمارات ب770 مليار دولار سنويا    تعرف على حد الاستخدام اليومي والشهري للمحافظ الإلكترونية للأفراد والشركات    المشاط تبحث مع سفير أذربيجان استعدادات انعقاد الدورة من اللجنة المشتركة بالقاهرة    «صحة غزة»: الاحتلال ارتكب 7 مجازر ضد العائلات في قطاع غزة    إسرائيل تعيد إغلاق معبر كرم أبو سالم بعد إدخال شاحنة وقود واحدة لوكالة أونروا إلى غزة    أوكرانيا: ارتفاع قتلى الجيش الروسي إلى 477 ألفا و430 جنديا منذ بدء العملية العسكرية    وزير الخارجية الإيراني: طهران والقاهرة تتجهان نحو إعادة علاقاتهما الدبلوماسية إلي طبيعتها    زعماء العالم يهنئون فلاديمير بوتين بعد تنصيبه رئيسا لولاية خامسة    القنوات الناقلة لمباراة الزمالك ونهضة بركان في نهائي الكونفدرالية    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    رسميا.. بالمر يتوج بجائزتين في تشيلسي    حريق يلتهم مطبخ شقة بشارع السحاب في العمرانية.. صور    ارتفاع تدريجي في درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس حتى يوم الجمعة 10 مايو 2024    الحبس سنة لربة منزل قتلت ابنة شقيق زوجها بالقليوبية    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    تأجيل محاكمة المتهم بقتل الطفلة مكة بالسلام    شاعر يتهم المطرب هاني شاكر بسرقة أغنية رحماكي    ياسمين عبدالعزيز وأبناؤها بمداخلة على الهواء في «صاحبة السعادة».. والجمهور يُعلق    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    انطلاق عروض الدورة الثالثة لمهرجان المسرح العالمي غدا    ذكرى رحيل أحمد مظهر.. نهاية حزينة لفارس السينما المصرية ومريم فخر الدين تكشف الأسباب    قصور الثقافة تصدر كتاب "السينما وحضارة مصر القديمة"    أصالة تحذف صورها مع زوجها فائق حسن.. وتثير شكوك الانفصال    الإفتاء تكشف محظورات الإحرام في مناسك الحج.. منها حلق الشعر ولبس المخيط    «الصحة»: فحص 13.3 مليون مواطن ضمن مبادرة الرئيس للكشف المبكر عن الأمراض المزمنة والاعتلال الكلوي    الكشف على 10 آلاف مواطن بالمنيا في 8 قوافل طبية خلال شهر    بدء تنفيذ أعمال مبادرة "شجرها" بسكن مصر في العبور الجديدة    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    اليوم، الحركة المدنية تناقش مخاوف تدشين اتحاد القبائل العربية    فولكس فاجن ID.3 موديل 2024 الكهربائية تنطلق رسميًا    سحر فوزي رئيسا.. البرلمان يوافق على تشكيل المجلس القومي للطفولة والأمومة.. يتألف من 13 عضوا.. وهذه تفاصيل المواد المنظمة    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    علي جمعة: الرضا والتسليم يدخل القلب على 3 مراحل    النواب يستكمل مناقشه تقرير لجنة الخطة والموازنة    "المدرج نضف".. ميدو يكشف كواليس عودة الجماهير ويوجه رسالة نارية    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    "لابد من وقفة".. متحدث الزمالك يكشف مفاجأة كارثية بشأن إيقاف القيد    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    نتائج التحقيقات الأولية فى مقتل رجل أعمال كندى بالإسكندرية، وقرارات عاجلة من النيابة    «القاهرة الإخبارية»: إصابة شخصين في غارة إسرائيلية غرب رفح الفلسطينية    "تجميد اتفاقية السلام مع إسرائيل".. بين العدوان المباشر والتهديد الغير مباشر    «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة في «ذي القعدة».. وفضل الأشهر الأحرم (فيديو)    وزيرة الهجرة تتلقى طلبات من الجالية المصرية بالكويت لتسوية الحالة التجنيدية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    يوم مفتوح بثقافة حاجر العديسات بالأقصر    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    "كفارة اليمين الغموس".. بين الكبيرة والتوبة الصادقة    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.عبد الحكيم الفيتوري : صناعة المعجزة عند الرواة ( الجزء الخامس والأخير )
نشر في شباب مصر يوم 18 - 02 - 2015


د. عبد الحكيم الفيتوري
مازال الحديث موصول حول موضوع صناعة المعجزة عند الرواة ونقول الأتي السبب الثاني: قبول المتأخرين ما ورد فيه من معجزات وخوارق للعادات.
على الرغم من نفي القرآن القاطع لدعم رسول الله بالمعجزات الحسية، فإن القاضي عياض يورد في كتابه ( الشفا) من المعجزات التي لا تستقيم إلا لخالق السماوات والأرض كإحياء الأموات، وإنطاق الجمادات والنباتات والحيوانات،بل وعلم ما هو كائن وما سيكون، وما إلى ذلك من الخوارق والمعجزات التي بلغت مجلدات كما قال القاضي عياض: لقد آتينا في هذا الباب على نكت من معجزاته واضحة، وجمل من علامات نبوته مقنعة، في واحد منها الكفاية والغنية، وتركنا الكثير سوى ما ذكرنا.... طلبا للاختصار وبحسب هذا الباب لو تقصي أن يكون ديوانا جامعا يشتمل على مجلدات عدة.( الشفا المجلد الأول).
فقد جمع القاضي عياض في كتابه (الشفا ) ما تناقله من كان ينتمي إلى خلفية ثقافية مانوية وزرداشتية كأهل خراسان، وسمرقند، ونيسابور، ونسفي، وأصفهان، وبخار، وترمذ، حيث تخيلوا في نقولاتهم بأن رسول الله ليس من البشر وإنما هو مقدس في ذاته حتى فضلاته؛ من بزق وعرق وبول وما إلى ذلك. لينتقل كلام هؤلاء الشفهي بتلك الخلفيات الفكرية والثقافية إلى حزمة من أسانيد تعتبر فيما بعد جزء لا يتجزأ من الدين، وتتحول تلك الأسانيد إلى عقدية تستوطنها خرافات مرتحلة، وتجتازها بكل حرية هبات ذاكرة الثقافة المانوية والزرداشتية تلقحها ريح الأسطورة والخيال عبر التاريخ والجغرافيا، لتتحول إلى مكب هائل تلقى فيه نفايات تلك الثقافات، من خلال المسلمين الجدد المهووسين بتعظيم الأشخاص، وعبادة البشر، وتقديس الرموز الدينية. ولا يستقم هذا الكلام إلا بعرض بعض عينات تلك الأسطورة والخيال المترعة بثقافة تقديس الأشخاص والرموز الدينية.
نسرد بعض ما يسمى بمعجزات النبي صلي الله عليه وسلم الحسية كما ذكرها عياض في كتابه (الشفا في حقوق المصطفى)، منها:
معجزات أعضاء الرسول.
1- معجزة الأصابع: بوب القاضي عياض فصلا بعنوان: في نبع الماء من بين أصابعه وتكثيره ببركته. قال فيه أما الأحاديث في هذا فكثيرة جدا روى حديث نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة منهم أنس وجابر وابن مسعود. وهذا نص رواية ابن مسعود قال: بينما نحن مع رسول الله وليس معنا ماء فقال لنا رسول الله: اطلبوا من معه فضل ماء فأتى بماء فصبه في إناء ثم وضع كفه فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله.
2- معجزة المس باليد: عقد عياض فصلا كاملا بعنوان ( ومما يشبه هذا من معجزاته تفجير الماء ببركته وابتعاثه بمسه ودعوته) ذكر فيه معجزات تفجير الماء بمس اليد كما حدث ذلك في غزوة تبوك، وقصة الحديبية.وأردف هذا الفصل بفصل بعنوان ( ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه) سرد في هذا الفصل روايات كثيرة منها حديث أبي هريرة، قال أصاب الناس مخمصة فقال لي رسول الله: هل من شيء قلت نعم شيء من التمر في المزود. قال: فأتني به، فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة ، ثم قال ادع عشرة فأكلوا حتى شبعوا ثم عشرة كذلك حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا. قال خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبه فقبضت على أكثر مما جئت به، فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله، وأبي بكر، وعمر إلى أن قتل عثمان، فانتهب مني فذهب.
يبدو أن فكرة أسطرة الذوات والاشياء سارية معتملة في ثنايا كتابه عياض، فقد انتقل من اسطراة أعضاء النبي إلى قوة تأثيره في الأشياء الشجر والنخل وتحويلها إلى كائنات حية تنطق وتمشي وتشهد شهادة الإسلام والإيمان، فذكر في هذا السياق. إنطاق الشجر والنخل، حيث عقد فصلا كاملا بعنوان (كلام الشجر، وشهادتها له بالنبوة، وإجابتها دعوته). ذكر فيه حزمة من الروايات والأسانيد في أنسنة الأشجار والنباتات كالكلام والحركة وما شاكل ذلك، جاء فيه.
3- شجرة تعلن إسلامها: ذكر من رواية ابن عمر أنه قال: كنا مع رسول الله في سفر فدنا منه أعرابي فقال: يا أعرابي أين تريد؟ قال: إلى أهلي. قال: هل لك إلى خير . قال: وما هو؟! قال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. قال: من يشهد لك على ما تقول. قال: هذه الشجرة السمرة، وهي بشاطئ الوادي فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى مكانها.
4- شجرة تمشي وتلقى التحية: عن بريدة سأل أعرابي النبي آية، فقال له: قل لتلك الشجرة رسول الله يدعوك. قال: فقالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها، ثم جاءت تخد الأرض تجر عروقها مغبرة، حتى وقفت بين يدي رسول الله فقالت: السلام عليك يا رسول الله. قال الأعرابي مرها فلترجع إلى منبتها فرجعت فدلت عروقها فاستوت...
5- النخل والحجارة يشيدن كنيفا: ذكر روايات كثيرة في هذا السياق الأسطوري منها رواية أسامة بن زيد قال: قال لي رسول الله في بعض مغازيه، هل يعني مكانا لحاجة رسول الله فقلت إن الوادي ما فيه موضع بالناس، فقال هل ترى من نخل أو حجارة، قلت أرى نخلات متقاربات. قال انطلق وقل لهن إن رسول الله يأمركن أن تأتين لمخرج رسول الله، وقل للحجارة مثل ذلك. فقلت ذلك لهن فو الذي بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاما خلقهن. فلما قضى حاجته قال لي قل لهن يفترقن فو الذي نفسي بيده لرايتهن والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن.
وانتقل عياض من ذكر معجزات الشجر والنخل إلى معجزات الفروع والجذوع غير آبه ولا مكترث بإتيان زمن العقل والنقد، فعقد فصلا بعنوان( فصل في قصة حنين الجذع)، أورد فيه حزمة من قصة حنين وبكاء جذوع وفروع الأشجار في أماكن متعددة وظروف متنوعة، كما قال عنها القاضي عياض: يعضد هذه الأخبار حديث أنين الجذع وهو في نفسه مشهور منتشر والخبر به متواتر.... قال الترمذي وحديث أنس صحيح قال جابر كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبي إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار
(= النوق الحوامل). وفي رواية أنس: حتى ارتج المسجد بخواره. وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوا به. وفي رواية: والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزنا على رسول الله، فأمر به رسول الله فدفن تحت المنبر.
6- جذع يريد الجنة: على الرغم من عدم تكليف الحيوانات والجمادات إلا أن ذوي ثقافة تقديس الذوات والأشياء أثبتوا في مسار المعجزات ما يدل على طلب النباتات الجنة بل ومرافقة النبي فيها؛ كما ورد في حديث بريدة حين فقال؛ يعني النبي للجذع: إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه، تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك، ثم أصغى له النبي يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل منى أولياء الله وأكون في مكان لا أبلى فيه، فسمعه من يليه. فقال النبي قد فعلت. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء.
وختم عياض أسطورة الجذع الذي اختار دار البقاء على دار الفناء بقوله: فهذا حديث كما تراه خرجه أهل الصحة من ذكرنا وغيرهم من التابعين ضعفهم إلى من لم نذكره وبدون هذا العدد يقع العلم لمن اعتنى بهذا الباب ، والله المثبت على الصواب.
ويبدو أن عياض لا يجد في قرارة نفسه منطق لقبول هكذا خرافات إلا أنه يتخندق داخل مفهوم حدده المذهب أو القبيلة الدينية التي ينتمي إليها ؛ كقوله هذا الحديث كما تراه خرجه أهل الصحة...، فيحتمي به ليضرب به منطق القرآن ونفيه القاطع (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون)، وممزقأ بذلك أوصال الرسالة الخالدة التي لا يستقم الإيمان بها إلا بمنطق العقل.
وعندما يتسلل منطق التخندق بمفاهيم عابرة لتمزيق منطق الرسالة الخالدة تصبح الكتابة الدينية مسكونة بتقديس الذوات ومترعة بالأسطورة والخيال، ففي مبحث كامل يتحدث القاضي عياض عن تسبيح الطعام، والحصى، وتسليم الحجر، وجبل يتكلم، وهلم جرا، فقد عقد فصلا بعنوان( فصل ومثل هذا في سائر الجمادات) ذكر فيها من الخرافات الكثيرة منها على سبيل المثال.
7- تسبيح الطعام: عن ابن مسعود قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وعن جعفر بن محمد: مرض النبي فأتاه جبريل بطبق من رمان وعنب فأكل منه النبي فسبح.
8- تسبيح الحصى:قال أنس أخذ النبي كفا من حصى فسبحن في يد رسول الله حتى سمعنا التسبيح، ثم صبهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم في أيدينا فما سبحن. وفي رواية عن أبي ذر: أنهن سبحن في كف عمر وعثمان. قلت: يبدو أن عدم ذكر علي بن أبي طالب مع عمر وعثمان مما يشير إلى تأثر رواة الأسطورة بأجواء التدافع الطائفي والسلالي.
9- تسليم الحجر: عن علي قال: كنا بمكة مع رسول الله فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجرة ولا جبل إلا قال له السلام عليك يا رسول. وعن جابر : لم يكن النبي يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له.
10- جبال تتكلم وتخشى العذاب: أنه حين طلبته قريش قال له ثبير(=جبل مزدلفة) اهبط يا رسول الله فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله، فقال جبل حراء: إلي يا رسول الله.
إن كل شيء كتبه عياض يدعونا بطريقة ما إلى الاعتقاد بأن تحويل النبي من كونه بشر (قل إنما أنا بشر مثلكم) إلى مصاف المقدس، وإضفاء الخيال والأسطورة على ذاته وحركاته وسكناته يعد من ثوابت الإيمان به وتوقيره، فمن ذلك ما سطره تحت عنوان(فصل في الآيات في ضروب الحيوانات)، حيث سرد فيه احترام الداجن للنبي، وإيمان الضب، وكلامه باللغة العربية،وكلام الذئب واهتمامه بالدعوة إلى الله، وهاك بعض النماذج من ذلك.
11- احترام الداجن: عن عائشة قالت: كان عندنا داجن فإذا كان عندنا رسول الله قر وثبت مكانه فلم يجيء ولم يذهب، وإذا خرج رسول الله جاء وذهب.
- ضب مؤمن ويتكلم العربية الفصحى: عن عمر قال: إن رسول الله كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي قد صاد ضبا فقال: من هذا قالوا نبي الله، فقال: واللات والعزى لا آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضب، وطرحه بين يدي النبي، فقال النبي له: يا ضب، فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعا، لبيك وسعديك، يا زين من وافى القيامة، قال من تعبد؟ قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عقابه، قال فمن أنا ؟ قال رسول رب العالمين، وخاتم النبين، وقد أفلح من صدقك ، وخاب من كذبك. فأسلم الأعرابي.
-ذئب يتكلم: قصة كلام الذئب مشهورة في مدونات الأحاديث عن أبي سعيد الخدري قال: بينا راع يرعى غنما له عرض الذئب لشاة منها فأخذها منه فأقعى الذئب، وقال للراعي ألا تتقي الله حلت بيني وبين رزقي. قال الراعي: العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال الذئب ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟
12- ذئب يدعو راعى غنم إلى الإسلام: فقال الذئب الا أخبرك بأعجب من ذلك؟ رسول الله بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبقن فأتى الراعي النبي فأخبره، فقال النبي له: قم فحدثهم؛ ثم قال صدق. وفي بعض الطرق عن أبي هريرة . فقال الذئب أنت أعجب واقفا على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله نبيا قط أعظم منه عنده قدرا قد فتحت له أبواب الجنة، وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشعب(=ما يفرج بين الجبلين) فتصير في جنود الله؛ قال الراعي من لي بغنمي؟ قال الذئب أنا أرعاها حتى ترجع ، فاسلم الرجل إليه غنمه ومضى.... فقال له النبي: عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها.
حينما ننظر إلى عناوين كتاب الشفا عن كثب، فإننا نكاد لا نجد إلى منطق العقل والقرآن سبيلا وإنما الخيال والخرافة، ففي فصل عقده حول انقلاب الأعيان للنبي بالمس أو بالمباشرة، قال:( فصل في كراماته وبركاته وانقلاب الأعيان له فيما لمسه أو باشره )، ذكر فيه نخس جمل جابر وكان قد أعيا فنشط حتى كان ما يملك زمامه. وصنع مثل ذلك بفرس لجعيل الأشجعي، وركب حمارا قطوفا لسعد بن عبادة فرده هملاجا لا يساير. وكانت شعرات من شعره في قلنسوة خالد بن الوليد فلم يشهد بها قتالا إلا رزق النصر.
وللقصعة نصيب: فلم ينس في خضم ذكر مناقب الجمال والخيل والحمير، أن يذكر خاصية قصعة رسول الله، فذكر عن بن المأمون قال كانت عندنا قصعة من قصاع النبي فكنا نجعل فيها الماء للمرضى فيشتفون بها.
13- حتى البول، والبزق، والريق: أنه بزق في بئر كانت في دار أنس فلم يكن بالمدينة أعذب منها. وبال في بئر في داره قال : فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها. ذكره البيهقي في الدلائل ولم يذكره عياض.وأنه أعطى الحسن والحسين لسانه فمصاه وكانا يبكيان عطشا فسكتا. وكان يتفل في أفواه الصبيان المراضع فيجزئهم ريقه إلى الليل. ومج في دلو من بئر ثم صب فيها ففاح منها ريح المسك.
14- عراجين مضيئة: وأعطى قتادة بن النعمان وصلى معه العشاء في ليلة مظلمة مطيرة عرجونا وقال انطلق به فإنه سيضيء لك من بين يديك عشرا ومن خلفك عشرا، فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه حتى يخرج فإنه الشيطان...
15- ومنه بركته في دور الشياء الحوائل باللبن الكثير كقصة شاة أم معبد، وأعنز معاوية بن ثور، وشاة أنس، وغنم حليمة مرضعته وشارفها، وشاة عبد الله بن مسعود وكانت لم ينز عليها فحل، وشاة المقداد.
16- ومسح على رأس قيس بن زيد ودعا له فهلك وهو ابن مائة سنة ورأسه أبيض وموضع كف النبي وما مرات يده عليه من شعره اسود فكان يدعى الأغر. ونضح في وجه زينب بنت أم سلمه نضحة من ماء فما يعرف كان في وجه امرأة من الجمال ما بها....
وفي سياق التأكيد على اطلاع النبي على الغيوب وما يكون ورسمه للمستقبل، أورد القاضي عياض جملة من الروايات قال فيها: والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره، ولا ينزف غمره ، وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع الواصل إلينا خبرها على التواتر، لكثرة رواتها، واتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب. وذلك تحت عنوان( فصل ومن ذلك ما اطلع عليه من الغيوب وما يكون).
ولم يكتفي عياض بذلك وإنما انكب على تفصيل معجزات النبي في علومه ومعارفه وإتقانه للغات ومعرفته بالتاريخ البشري، وإحاطته بالقوانين وسياسة البشر، فقال:(فصل) ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله له من المعارف والعلوم وخصه به من الاطلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور شرائعه وقوانين دينه، وسياسة عباده، ومصالح أمته، وما كان في الأمم قبله، وقصص الأنبياء والرسل، والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه، وحفظ شرائعهم، وكتبهم، ووعى سيرهم وسرد أنبائهم، وأيام الله فيهم، وصفات أعيانهم، واختلاف آرائهم، والمعرفة بمددهم وأعمارهم وحكم حكمائهم، ومحاجة كل أمة من الكفرة، ومعارضة كل فرقة من الكتابيين بما في كتبهم وإعلامهم بأسرارها ومخبآت علومها وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيروه، إلى الاحتواء على لغات العرب وغريب ألفاظ فرقها والإحاطة بضروب فصاحتها، والحفظ لأيامها وأمثالها وحكمها ومعاني أشعارها والتخصيص بجوامع كلمها إلى المعرفة بضرب الأمثال الصحيحة.... إلى أن قال: وأما علمه بلغات العرب وحفظه معاني أشعارها فأمر مشهور قد نبهنا على بعضه أول الكتاب وكذلك حفظه لكثير من لغات الأمم(بتصرف:كالحبشية، والفارسية). ثم ختم كلامه بقوله: ولا سبيل إلى جحد الملحد لشيء مما ذكرناه، ولا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه إلا قولهم ( أساطير الأولين).
يبدو من خلال أساليب الرد والاحتجاج وسياق المدافعة في كلام القاضي عياض أن ثمة أناس ينتمون إلى دائرة الإيمان بالله جملة ينتقدون دلائل النبوة لدرجة تشكيكهم في صحة نبوة النبي أصلا، ومن ذلك قوله في سياق الرد: ثم ما قالوه مكابرة العيان فإن الذي نسبوا تعليمه إليه إما سلمان أو العبد الرومي. وكلام عياض بهذا الأسلوب مدعاة لفتح المجال أمام البحاث في التنقيب وإجراء الحفريات المعرفية في أرضية تلك الكتابات الثقافية والبيئية والاجتماعية والفكرية والسياسية.
المهم أن توجه عياض لم يقف عند هذه الحد من سرد الخيالات والأساطير، بل طفق يضخم الخرافات كما وكيفا لدرجة ذكر معجزات النبي قبل ولادته وعندها وبعدها، ومن ذلك قوله: ما ظهر من الآيات عند مولده وما حكته أمه ومن حضره من العجائب وكونه رافعا رأسه عندما وضعته شاخصا ببصره إلى السماء. وما رائه من النور الذي خرج معه عند ولادته، وما رائه إذ ذاك أم عثمان بن أبي العاص من تدلي النجوم وظهور النور عند ولادته حتى ما تنظر إلا النور وقول الشفا أم عبد الرحمن بن عوف: لما سقط النبي علي يدي واستهل سمعت قائلا يقول رحمك الله وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى قصور الروم. وما جرى من العجائب ليلة مولده من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط شرفاته، وغيض بحيرة طبرية، وخمود نار فارس، وكان لها ألف عام لم تخمد...
ولم يفوت القاضي عياض استحضار ذلك البعد الخيال والأسطوري عند ذكر موت النبي من باب الموازنة بين مولده ومماته في سياق ذكر المعجزات، فقد سرد بدون مواربة ميثية قيام الخضر، والملائكة، بواجب العزاء لأهل بيت النبي بالمدينة المنورة، فقال: ....أنه كان لا ظل لشخصه من شمس ولا قمر، لأنه كان نورا. وأن الذباب كان لا يقع على جسده ولا ثيابه. وما روى من تعزية الخضر والملائكة أهل بيته عند موته. (وللمزيد يمكنك الاطلاع على نسخة كتاب الشفا، حققه وأشرف على طباعته، عبد السلام أمين، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى عام 2000م )
ويبدو أن السياق التاريخي لكتابة كتب دلائل النبوة في تلك النواحي الجغرافية في مرحلة التأسيس هو الذي ساهم في التنكر لحقيقة القطع والنفي القرآني لدعم رسوله بالآيات والمعجزات الحسية، عدا معجزة القرآن الكريم الخالدة، ودفع بفكرة الأسطورة من رحم المعتقدات الفارسية والمانوية والزرادشتية عبر المشافهة، والمرويات، والأسانيد إلى صناعة الاعتقاد وتشكيل التصورات الغيبية. مع العلم أن التكرار الطقوسي لهذه الخرافات والخيالات لا يمنحها معنى الحقيقة والاعتقاد عند ما يكون العقل والقرآن هما الميزان الذي توزن به الحقائق، ولأن تلك الأساطير لا تنمي للوحي ولا لمنطق العقل والعلم وإنما تنتمي للتاريخ كمحاولة بشرية لتقديس الرموز الدينية على ما هو جار في علم العصور الأولى البدائية، إذ إنها لا تعدو كونها حكايات للتسلية، على غرار تلك التي تروى خلال سهرة طويلة تحقق الأمن الأسري والاجتماعي والقبلي ولكنها في حقيقتها لا تمت للحقيقة بشيء فضلا عن اعتقادها وتقديسها!!
ختاما إن ما سطرناه أعلاه هو ما يمكننا باختصار قوله عن مدى سلطة كتابات الأسلاف فينا (= الأموات الأحياء فينا)، إنها سلطة ملتبسة بالنص المقدس تأويلا وتفسيرا، وبالتالي فنحن في حاجة ضرورية للتفكير في كيفية فك الاشتباك بين المقدس والبشري عبر المراجعات التقييمية الهادفة والوقفات النقدية الجذرية، والالتزام بمحاكمة تلك الكتابات والمدونات إلى ميزان العقل والوحي، وعدم الوثوق بصحة تلك الروايات الواردة في تلك المدونات خاصة وأننا نراها تشوه مقاصد الوحي ومناط تكليفه (=العقل)، لأن منح الثقة لهذه المدونات وتلك الروايات يعني تشويه الرسالة الخالدة ورسولها صلى الله عليه وسلم.
انتهت هذه السلسلة من موضوعة صناعة المعجزة عند الرواة وإالي مقالات أخري قادمة بإذن الله تعالي .
د. عبد الحكيم الفيتوري
مفكر إسلامي وباحث وكاتب من ليبيا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.