لا تملّ القصائد من التفتيش عن القسوة.. والخيارات كلها تمثل وجوهًا للموت فى الفيلم الأمريكى «عقل جميل»، (2001)، ينفعل البطل الفصامى جون ناش راسل كرو أمام فعل التقبيل. إن نابغة الرياضيات ينفعل فى الحقيقة أمام حقيقة أن التقبيل تعبير رمزى عن الحب، بعجزِ مغتربٍ أصيل. عندما يكتشف ناش فجأة الهوة العميقة بين القبلة كعلامة عاطفية، والعملية الكيميائية المادية المجردة التى تجرى بالتقاء شفتين، لا يجد فى مخزونه سوى «مونولوج» لاهث آلى عن «حقيقة» ذلك السلوك، والتى تختلف جذريا عن «مظهره» أو «دوره» العاطفى. إنها ورقة التوت حين تُنزع عن «الثقافة» لنجد أنفسنا، مثلما وجد البطل نفسه، فى الجحيم. أذكر أن المشهد فجر ضحكات عالية فى صالة السينما، فالقبلة فى الوجدان الجمعى لا يُمكن أن تُختزل لعملية حسابية. كان ذلك، رغم أنه حقيقى لأبعد حد، جزءا من فصام البطل نفسه، من جنونه وعبقريته أيضا. بشكل ما استدعيت هذه المفارقة وأنا أقرأ «تفقد عذريتها على مهل، المجموعة الشعرية الأولى لأميرة الأدهم (دار ميريت)، فطوال الوقت يهيمن هذا التساؤل العارى على العالم الشعرى، بين ما نتلقاه كمظهر، أو ما نمارسه كفعل، قادم من/ أو ذاهب إلى الوجدان، وبين الحقيقة التى لا يلتفت إليها أحد، الحقيقة المثيرة للضحك، كون الاستخفاف هو أشد أشكال الإنكار قسوة. «عندما عرفت أن سبب نعومة شعر عبد الحليم، فى أواخر أيامه أستروجين تليف الكبد وتأكدت من أن ابتسامة أطفال السرطان اضطرابات عقلية بسبب العلاج الكيماوى صدفة: اتصلت بك هذا الصباح لأنى لم أشرب قهوتى». ثمة تساؤل لحوح حول صورة العالم، (إذ يتحول إلى مظهر زائف)، داله الهائل الذى يبذر بلا هوادة مداليل جاهزة، هى ما يصنع الاتفاق، لتُشكِّل فى الأخير ما يمكن تسميته ب«الوجدان الجمعى» ولتقضى، بالمقابل، على آخر أمل فى الفردية. إن السؤال الأفدح من «كيف نفكر بالطريقة ذاتها»، هو هنا «كيف نشعر بالطريقة ذاتها، كيف ننفعل وكيف نعبر، جميعا، عن انفعالاتنا، بالطريقة ذاتها؟». تبعا لذلك، فإننا نعيد إنتاج الصورة الجاهزة وليس الواقع كما نظن، فيصير كل شىء محاكاة للصورة الزائفة فى الحقيقة، بدءا من الفن وحتى الحياة اليومية نفسها: «كم تبقى من الطريق؟/ سوى تلك الخطوة اللا نهائية/ بين صورةٍ كُتبتْ فى القصيدة/ وصورةٍ أخفيتها فى الرمش/ الذى خطوت به/ فوق القصيدة/ وانتهى الرمش/ ولم يتبق من الطريق/ سوى قصيدة/ خطوة». إن الوعى الفردى فى هذه المجموعة يشحذ نفسه أولا بكشف الهوة بين العالم التجريبى والوجود المتوهم، عبر معطيين متجادلين بصوتٍ عالٍ فى القصائد: القوانين المجردة التى تحكم الإنسان والأشياء، والمظاهر التى تنتج عن ذلك وتبدأ حياتها وفق نظرة مختلفة للثقافة، منها الشعر نفسه. فى سبيل ذلك، لن تتوانى الشاعرة (طالبة الطب بالذات) عن استجلاب جدب المعرفة اليقينية للعلم الطبيعى لمجادلة ما هو شعرى. من هنا يمكن، (بمنطق ذهنى تحافظ الذات الشعرية عليه مشحوذا)، إعادة تفجير المفارقات، حتى يصير إعادة إنتاج المألوف، قادرا على الإدهاش. القسوة فى تجسدها العارى، هى ما لن تمل القصائد التفتيش عنه.. والجمال كصورة زائفة هو المؤسسة التى يجرى تفكيكها على مهل فى حقيقة الأمر، بمبضع بارد وبلغةٍ شعرية تجتهد للتخلص من حمولاتها العاطفية. إنها تلتفت، بقسوة الحياد، لكل ما يبدو متماسكا، مطمئنا فى ظاهره، لتقوضه دون هوادة. هنا فعل شعرى أقرب بالفعل لإجراء التشريح، حيث ما هو «إنسانى» لم يعد كذلك، فور انزياح قشرة الثقافة الهشة عن الجسد وعودته جثمانا أو «شيئا» عاريا من حمولته العاطفية. الجثمان فى هذه القصائد هو «الصورة» عندما تبتلع الكائن وتختزله، وتتحول لأسطورة استهلاكية قابلة للأبد رغم ذلك لخلق النوستالجيا، والأفدح: أنها تفعل ذلك طوال الوقت بالطريقة نفسها. صورة عبد الحليم (المطرب العاطفى الأول لأمة) أو أطفال السرطان (بكل ما تتوفر عليه من شحنات عاطفية)، ستتكرر، على اختلاف «الأساطير»، منتقمة من المجاز نفسه، فتصبح «الورود التى على ظهرك حساسية فراولة»، و«الأخضر الذى يعمينى/ صرة زائدة فى النص». إنها بالضبط مفارقة «تليف كبد الطيبين/ حين يشربون النار/ لتخمد النيران». رغم أن الذات الشاعرة حاضرة كمركز لأغلب القصائد، فإنها تنكر على نفسها حضورها «الأصلى»، محولة نفسها لصورة أو نسخة متقنة من ذات حقيقية لم يعد لها وجود. الذات الشاعرة هنا، فى إقصائها للغة العاطفية من ناحية، (وبقمع الاحتمالات العديدة فى القماشة الشعرية لتخليق قصيدة غنائية منسجمة)، وفى اتكائها على رهط من التعريفات الدقيقة (قادم من الطب كخبرة تجريدية)، تبدو طامحة لخلق نوع من الجمال الخشن، المرتبك، حيث العبارة الشعرية دائما تُبتر فجأة، لتبزغ أخرى، وحيث يندر أن تكتمل دائرةٌ دلالية بطريقةٍ مُشبعة. وهنا تتحقق بوضوح السمة «الكولاجية» لعالم أميرة الأدهم الشعرى. نحن أمام أنساق كولاجية، تخفت فيها البنية المركزية لصالح المزق النابعة من خبرات حسية مبتورة ومتنائية، تلتئم شعريا، بشروط جديدة، كأنما تحاكى عالما من الشظايا. تشعر طوال الوقت أنك أمام أنقاض صلبة تبقت من عوالم جرى تقويضها، يلمها وعى الذات الشاعرة ليسكبها من جديد، لينثرها بخفة تعمقها اللغة المحايدة على سطح النص. يصعب فى «تفقد عذريتها على مهل» أن تنجرف اللغة لتمارس تأثيرا عاطفيا أو تشى بانحيازها. ربما من هنا أيضا جاءت هيمنة المقاطع الصغيرة، كأن اللغة تستأصل شهوتها. فقوام التجربة مقاطع شعرية كثيفة، سواء كقصائد معنونة تحت مظلة عنوان شامل، كما فى قصيدة «الكتابة لا تحتمل براعة الأصوات»، أو كمقاطع مرقمة، أو ككتل صغيرة مفصولة فى فضاء القصيدة الواحدة. تبدو الذات الشاعرة قادرة، ببساطة، على التجرد حتى من النوع، بتجردها من «الأشياء» التى تمنحه صورته، وكأن «الاصطناعى» هو ما يمنح الطبيعى مسماه، كما أن المظهر هو، فحسب، الجوهر: «بدون الحَلَقِ الأحمر الدائرى، والفستان، وكعب الحذاء الرفيع نادنى: محمد». بتجردها من الحلى الأنثوية التى خلقها الاتفاق الثقافى، تحمل الذات اسم الرجل، بل وتطلب مناداتها به. إنها العدمية القصوى حيال استحالة تعريف نفسها حتى وفق النوع، ذلك القيد الأكثر جاهزية والذى يستحيل الفكاك منه. أيضا، تتحرك الذات الشاعرة بين خيارات تمثل جميعها وجوها للموت، وكأن الخيار الوحيد هو «طريقة» الموت وليس شيئا آخر: «أنا الذى تخيره بين سرطان الرئة والكوليرا، فيختار السكتة الدماغية/ ويشكر أدوات القدر/ لحسن تعاونها مع الموت». هذا التصالح مع التشيؤ هو فى ظنى ما تستلهم منه اللغة الشعرية أداءها وحساسيتها، فتحيل الغريب أو المفارق إلى مألوف اعتيادى يفتقر إلى القدرة على الإدهاش. إنها حيلةٌ أخرى للنيل من «التأثير» أو «الانفعال» باعتبارهما معطيات باتت جاهزة ومشحونة سلفا.. وكأن «تفقد عذريتها على مهل»، كتجربة شعرية، تذهب لغويا ورؤيويا لمحاولة البحث عن العالم، بدلا من إعادة تدوير صورته.