عامان- بالتمام والكمال- مرا على رحيل محمود درويش، المنشد الفلسطينى الملحمى، الذى أدخل القضية الفلسطينية فى الوجدان الشعبى العربى، لتصبح قضية إنسانية حية، بعيدا عن الملابسات السياسية المتغيرة والمتفاوتة. رحلة شعرية امتدت لأكثر من أربعين عاما متواصلة، بلا انقطاع، رحلة تبدأ من "عصافير بلا أجنحة" (1962) ف"أوراق الزيتون" (1964) اللذين يحملان معا طابع البدايات التقليدية، بما ينطوى عليه من أصداء شعراء سابقين، بلا خصوصية ذات بال. لكن الديوانين لا يعنيان أكثر من إشهار للشعر والشاعر معا، لا أكثر، فهى رحلة ليست مستقيمة، أفقيا؛ بل تنطوى على التحولات الداخلية، فى الأداء الشعرى، بلا سكونية أو استنامة لمنجز تلك المرحلة أو تلك، كانعكاس للقلق الشعرى، وتغير الأسئلة التى تطرحها الذات على القصيدة، لكن "النواة" الإنشادية، هى الباقية دائما، على مر القصائد والدواوين. ومن "أوراق الزيتون"- أيضًا- تبدأ المرحلة الأولى فى شعرية درويش، التى تمتد إلى دواوينه التالية: "عاشق من فلسطين" (1966)، و"آخر الليل" (1967)، و"العصافير تموت فى الجليل" (1969)، و"حبيبتى تنهض من نومها" (1970). هى قصائد "المقاومة" بمعناها المباشر، الذى لا يستر تحريضيته (كانت البندقية مشرعة فى ذلك الحين- من جميع الفصائل- فى اتجاه واحد، العدو، الذى كان محددا بوضوح قاطع، بلا لبس أو مراوغة. وكان الهدف- أيضا- محددا، ويجمع عليه- على اختلاف التوجهات السياسية- الجميع: التحرير). فهى قصائد التوحد مع الفعل التحريرى، أو هى الترجمة الشعرية للفعل، لتصبح بدورها فاعلية "استعمالية" تصب فى نفس الاتجاه. هكذا، تصبح الأرض الحبيبة التى يغنى لها الشاعر، قصيدة وراء أخرى، الحبيبة الحلم، عصية المنال، التى تمتزج فى ملامحها ملامح الأم والأب والأجداد، وجدران البيوت، والشوارع، والتلال، وأشجار الزيتون والتين والسنديان. امرأة تختصر التواريخ والأساطير والحيوات وأرواح الشهداء السابقين واللاحقين، دون أن تحيط بها القصيدة، فتتوالى القصائد للإمساك بها فى اللغة، دون جدوى، وتصبح القصيدة "السياسية" قصيدة حب لا تنتهى، ولا تستنفد. فى هذه المرحلة، يؤسس درويش لآليات التواصل مع المتلقى/المستمع، هدف الكتابة "الإنشادية": انضباط الإيقاع التفعيلى البسيط على طول القصائد، وتواتر القافية، وشفافية اللغة، ووضوح الصورة الشعرية. هى السلاسة المشحونة بروح التحدى العالية، والتحريضية المباشرة، والإيقاع الرنان، فى انتظام التفعيلات، وقصر الأبيات، والتزام القافية المتراوحة، والوقفات المتفاوتة، وتناوب صوتيات حرفية ولفظية خاصة، تحول القصيدة إلى اندفاعة صوتية عنيفة ومباشرة، تتجاوب مع حماسية المرحلة، وضرورات الإلقاء التقليدية. هى تلك الملامح "الشفاهية" الشائعة فى شعر تلك المرحلة، الذى يفترض "المنبرية" والتواصل مع "الجماهير"؛ وخاصة إذا ما كانت القصائد "نضالية ثورية" تصدر عن شاعر المرحلة الفلسطينى. لكن المرحلة الثانية تشهد انتقالة نوعية فى النص الشعرى لدى درويش فى "أحبك أو لا أحبك" (1972)، و"محاولة رقم 7" (1973)، و"تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" (1975)، و"أعراس" (1977)، انتقالة فى اتجاه أن تكون القصيدة فعلا شعريا فى ذاته، لا تعبيرا عن فعل آخر، بلا تناقض مع دورها السابق كأداة تحريض وتثوير للجمهور. هكذا تتجاوز القصيدة الثنائية الخارجية المباشرة إلى مساءلة الذات والعالم، واستبطانهما فى العمق الذى لا يدركه البصر، بل البصيرة. لا يصبح العالم واحدا (وإن كان منقسما على ذاته)، بل متعددا، ومتعدد الطبقات والأصوات. وبين الأبيض والأسود (السائدين فى المرحلة السابقة)، يتجلى هنا "الرمادى" ليحتل باسمه قصيدة كاملة، شارة على التغير الجوهرى فى رؤية العالم. ومحل اليقين الثابت والنهائى، يأتى الشك ونقض البديهيات السابقة. وتتكاثف صوتيات القصيدة، مضيفة إلى قدراتها تنويعات جديدة من الإيقاع النثرى، والتدوير، والوحدات الموسيقية المركبة من تفعيلات مختلفة، فى القصيدة الواحدة. تتوحد- فى عالم القصيدة- الإيقاعات المرتفعة للأناشيد والتهاليل، والإيقاعات الخفيضة- النثرية أحيانا- للتأمل الداخلى والأحزان المراودة، والإيقاعات المتكسرة للتوتر المرتبك الباحث عن خلاص، والإيقاعات المنسابة الصريحة للصفاء الداخلى الشفيف. مرحلة يجرب فيها الشاعر احتمالات جديدة عليه، ومن أهمها "النثرى" فى "محاولة رقم 7"، وتركيبية القصيدة الواضحة فى "سرحان يشرب القهوة"، ومخاطبة الذات لا الخارج، وخلخلة البنية الأفقية-الخطية للقصيدة السابقة إلى بنية متعددة الأشكال واللبنات والأدوات. لكن الشاعر ينقلب على منجزات هذه المرحلة الشعرية فى "مديح الظل العالى" (1983)، الخطابية، الرنانة، التى تعيد تقسيم العالم إلى ثنائية جديدة: الفلسطينى فى مقابل الآخرين جميعًا. ويتحول الشاعر- فى القصيدة الديوان- إلى شاعر "القبيلة" الفلسطينية، الذى يرفعها بالمديح إلى حدود الأسطورة الخارقة، كقبيلة من أنبياء، ويصب الهجاء اللاذع على الآخرين الأعداء، المتواطئين، إلخ. قصيدة-معلقة فلسطينية تؤرخ للحظة انكسار الحلم، وتحاول ترميم الذات الفلسطينية بصياغة صورة جديدة للفلسطينى، ذلك اليتيم المنفى الأبدى، الموزع وحيدا بين الجغرافيات المعادية والمتواطئة. هكذا، يبدو "حصار لمدائح البحر" (1984) بوابة المرحلة الأخيرة. إنه تأمل للكارثة، ومساءلة أليمة للذات والوجود، بلا صخب. ويمكن للبيت الشعرى أن يمتد إلى عشرة سطور، دون انشغال بالتلقى؛ وتخاصم الصورة الوعى المباشر، والفكرة الجاهزة، إلى مخاطبة اللاوعى وكشف الأسئلة الغائبة؛ والقافية تأتى حينما تأتى أو لا تأتى؛ والإيقاع يشبه البوح، لا الخطابة؛ إيقاع شبه سرى، خافت، حيث النص ليس موجها- هنا- إلى "الجماهير"، بل إلى الذات المكلومة، الناجية بمعجزة من الطوفان. وابتداء من "هى أغنية.. هى أغنية" (1986) تنفتح المرحلة الأخيرة على مصراعيها حتى قصيدته التى لم تكتمل. إنها هى ذلك "الهامش الأبيض" لتأمل المعنى. فى هذه المرحلة، لا إجابات؛ بل أسئلة ومساءلات لا تنتهى. وتأتى الذاكرة- التى تتحرك فى كل الاتجاهات- بتفاصيل الوقائع الدالة والأساطير الغابرة والتواريخ الهامشية، لتخضع جميعا لإعادة النظر والتمحيص، كأنها تكتشف للمرة الأولى، ليس الوعى، بل اللاوعى، ومن موقع الراهن، تدور عين البصيرة 360 درجة، لتأتى بما لا يأتى، بلا تخطيط أو ترصد. لكنها حركة الروح المهزومة فى الأعماق، لاستعصاء الحلم، أو انكساره، ومساءلة الذات عن الهوية "من أنا؟ من أنا؟". يستحضر درويش- هنا- أوديب ويوسف النبى والعشاء الأخير والأندلس والهندى الأحمر وسوفوكليس والعنقاء وامرؤ القيس وسدوم وجميل بثينة ومجنون ليلى والكاماسوترا وطوق الحمامة، و"القضية" تذوب عضويا فى الوضع الوجودى المأزوم للذات، فتتلاشى النبرة "السياسية" إلى الأعماق البعيدة، بلا إعلان أو شعار. رحلة طويلة، عسيرة، بلا أفقية؛ أعادت العلاقة بين الجمهور والشعر إلى أزهى عصورها، بانطلاق صوت الشاعر بالتعبير عن الحلم الفلسطينى العربى لذلك الجمهور، بلا إيغال فى التركيبية أو التجريب؛ ليوحد الجمهور- والكثير من المثقفين- بينه وبين القضية ذاتها، فترفعه "القضية" إلى مكانة غير مسبوقة لدى هذا الجمهور العريض. هو صوت الشاهد الذى يكشف المخبوء الراهن، وصوت النبى الذى يكشف المخبوء القادم، وصوت المحرض الذى يستثير على الفعل، وصوت القاضى الذى يحكم بالبراءة أو الإدانة، وصوت المغترب الذى يرثى فساد العالم. وأحيانا ما تندمج هذه الأصوات- جميعا- فى صوت واحد، صوت الشاعر، الذى يطلق فى وجه العالم كلمته الشاملة، لكنه- فى جميع الحالات- صوت باذخ، ارتقى- فى الأعمال الأخيرة- إلى حالة نادرة من الصفاء الشعرى والبصيرة النافذة.