انتهي رمضان، وابتهلنا ككل عام في خواتيمه: "لا أوحش الله منك يا شهر الصيام" لكننا لم نصارح أنفسنا "ما أوحشنا فيك وأسوأنا يا رمضان". صمنا وقمنا كما كنا نصوم ونقوم في عهد المخلوع، وشاهدنا مسلسلات مطفأة الروح تتصدرها تخاتيخ الفلول وتسير علي خط مبارك أكثر من مسلسلات أي عام سابق؛ ببساطة لأنها أعدت في عام كانت تتجمع فيه سحب الثورة الواعدة بالمطر وكان الحكم أقل تقبلاً لغمزات الدراما التي تسامح معها في سنوات سابقة. وأسوأ ما كنا عليه في رمضان الذي نودعه اليوم كان إعلانات التسول علي المرضي والفقراء، وهي أسوأ، لأنها أكبر دليل علي أن ريح مبارك وابن مبارك وامرأة مبارك لم تزل عالقة بالموقع، نشمها في كثير مما حولنا. ليس بوسعنا أن نفرح بمحاكمة ساكن المركز الطبي؛ لأن قفص الاتهام في التجمع الخامس بينما أعمال المتهم وعائلته تحاصرنا إذا مشينا في شارع أو دخلنا مستشفي أو فتحنا تليفزيونًا. وقفة جمال مبارك في القفص من المفترض أن تعني سقوط "الدولة الفاشلة" التي أقام أركانها مع عصبة السماسرة في سنوات غيبوبة والده، وتقوم فلسفتها البسيطة علي سرقة مقدرات الشعب ثم الإحسان إليه. ولكن مع هذه الإشارة المبشرة إشارة وجود جمال في القفص استمر إعلان الجمعية الخيرية "اكفل قرية فقيرة" وهو إعلان عبقري في تلخيص حالة "الدولة الفاشلة" لأن العبارة قادمة من المجال الديني "اكفل طفلاً يتيمًا" وتستوي القرية الفقيرة مع القرية اليتيمة في التأكيد علي موت الدولة وغيابها. وبدلاً من أن نعيش رمضانًا مختلفًا نفرح فيه بميلاد مصر جديدة تعرف كيف تعيد تنمية الريف، ظل الإعلان يدفع إلينا طوال الشهر بجثة مصر الميتة علي الشاشة، بينما تمتد يد المحسنين لتربت علي شعر قراها اليتيمة. سماسرة الأراضي أفقروا القري وهدوا حيلها لكي يتمنظروا بعد ذلك في حفل إهداء جاموسة لأرملة قروية أو افتتاح صهريج ماء أو رصف كيلو متر من طريق ترابي، وكلها مهام ليس مسئولاً عنها جمال مبارك أو أحمد عز، بل الدولة التي كان ينبغي أن تتقاضي ضرائبها من أحمد عز وتتولي رعاية مواطنيها. الإعلان الثاني الذي يقول لشعب مصر "وكأنك يا أبو زيد ما ثرت" هو إعلان التبرع لمستشفي سرطان الأطفال 57357 وهو النموذج الأبرز لسياسة آل مبارك التي عملت علي اختراع دولة صغيرة محندقة لا تكفي لعيش المصريين بل تكفي فقط لتصوير المحسنين وهم يفعلون الخير ويرعون شعبها الصغير غير المشاكس، الذي يتعلم أطفاله الأصحاء في مدرسة سعيدة وينام أطفاله المرضي علي أسرة المستشفي الصغير ويؤدي مثقفوه نمرة الحديث عن الإصلاح في مكتبة الإسكندرية. كان شعب التليفزيون ومكتبة التليفزيون ومستشفي التليفزيون ومدرسة التليفزيون البديل التافه الذي تصوروا أنه سيغطي علي فشلهم في علاج وتعليم الشعب الحقيقي. الملايين من الشباب يأكلهم الفقر بلا أدني فرصة للقراءة بعيدًا عن مكتبات سوزان الفخمة بأثاثها وأمينات مكتباتها الجميلات، الهزيلة بمحتواها. الآلاف من المسرطنين بفعل الغش الذي تمارسه عصابة الحكم يفترشون أرض المعهد القومي للسرطان بحثًا عن جرعة علاج، بينما نجوم المجتمع، بمن فيهم رجال الدين، يبتسمون للكاميرا بجوار طفل من ثلاثين طفلاً في المستشفي الصغير يبتزون مشاعر المصريين كي يتبرعوا للصرح الصغير الذي لا يشبع تسولاً. يذكرنا استمرار التسول من أجل هذا المستشفي بنكتة جامع التبرعات في القللي الذي ظل ثلاثين عامًا ينادي "تبرعوا لبناء مسجد نفق شبرا" وعندما طال الوقت وقل إقبال المواطنين علي التبرع قام بتغيير النداء "تبرعوا لبناء نفق شبرا، بنينا المسجد ولسة النفق". إعلان المستشفي حمل جديدًا هذا العام "تبرعوا لتوسعة المستشفي" وجاءت صور رجال الدين في غرف المستشفي لتدين قصور تفكيرهم أو ممالأتهم للسلطان، فهم يطلبون التبرع إعلاء لقيمة "الرحمة" ويتجاهلون القيمة الأهم "العدل" وكان عليهم أن يدركوا أن علاج المرضي مسئولية الحاكم؛ فإن لم يستطع فعليه أن يرحل لا أن يأمر فضيلة الشيخ بقلوظة العمة والوقوف بجوار طفل بائس أفقده المرض شعره وحيويته. وقد قلنا مرارًا أن هذا الاستعراض للمرضي إهدار لمواثيق حقوق الإنسان التي تؤكد علي حق المريض في سرية بياناته وحقه في تلقي علاج دون أن يشعر بتعرض كرامته للإهانة. وكل ما نرجوه أن يكون هذا آخر رمضان نشم فيه ريح سوزان مبارك ومنظومات الدولة الفاشلة التي ثرنا عليها. ونتمني أن يفتح النائب العام تحقيقات حول المشروعات الخيرية لتقديم كشف حساب بما تلقته من أموال وأوجه إنفاقها، علي أن تكون البداية بهذا المشروع الغامض "مستشفي سرطان الأطفال" لكشف أوجه الإنفاق علي المستشارين وشركات الإعلان طوال سنوات التسول بالأطفال، تمامًا كما تفعل أية نصابة متسولة في الشارع. ولا ندري لماذا تجرجر متسولة الشارع إلي السجن بتهمة النصب واستغلال الطفولة، بينما تُسمي من تفعل ذلك من خلال مؤسسة "سيدة فاضلة"؟ وبعد أن ذهبت، لماذا تستمر "منظومة" التسول في مصر الثورة؟