الحرية وحدها لا تشبع بطونا ولا توفر گرامة .. والگرامة لا يحظي بها من گان جائعا مستعبدا هگذا تقترف النخبة السياسية المصرية بعد ثورة يناير 2011، نفس خطيئة النخبة الحاگمة بعد ثورة يوليو 1952 ..لگن من اتجاه مختلف ! ليست هناك ذريعة للقوي السياسية من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تمنعها من الالتقاء معا للاتفاق علي مشروع اجتماعي واحد لماذا يظل عبدالناصر حيا في القلوب رغم أنه أسلم الروح منذ 14 عاما مضت، ولماذا مات حسني مبارك رغم انه مازال علي قيد الحياة؟! لماذا تحول انقلاب 32 يوليو العسكري، إلي ثورة غيرت وجدان المجتمع المصري، ولماذا ثورة 52 يناير الشعبية، مهددة بأن تتقلص إلي مجرد انتفاضة قلبت نظام الحكم؟! السر أن عبدالناصر انحاز إلي الغالبية الكاسحة من البسطاء، وأن مبارك أنشأ أوليجاركية متحكمة من رجال الأعمال تسلطت علي مصائر ابناء الشعب. السر أن انقلاب 32 يوليو تبني مشروعا اجتماعيا دشنه بالإصلاح الزراعي بعد 84 يوما لا غير من حركة الجيش، فصارت ثورة تتعمق جذورها في المجتمع تتصدي للإقطاع وتوزع خمسة أفدنة لكل أجير معدم من ملايين الفلاحين. بينما ثورة 52 يناير مازالت تراوح مكانها في دائرة الجدل حول العملية السياسية »الانتخابات البرلمانية/ الدستور/ انتخابات الرئاسة« فنجد القوي السياسية من أحزاب وحركات احتجاجية وائتلافات ثورية منشغلة بالمطلب الديمقراطي عما عداه من مطالب اخري لجماهير الشعب. هكذا تقترف النخبة السياسية المصرية بعد ثورة يناير 1102 نفس خطيئة النخبة الحاكمة المصرية بعد ثورة يوليو 2591، لكن من اتجاه مختلف! فعلي حين اعتبرت نخبة يوليو تحقيق العدالة الاجتماعية هدفا يغني الشعب عن الحياة الديمقراطية السليمة، تبدو نخبة يناير منقادة إلي السقوط في فخ التصور بأن إنجاز البناء الديمقراطي هو هدف أسمي من تصحيح ميزان العدالة المختل في المجتمع. لا تعاني النخبة السياسية في أي مجتمع ومنها مصر، من الفقر، ولا تشعر بعضة الجوع، لذا تخاطب الفقراء إذا اشتكوا بالقول المأثور: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!.. غير أنها تنسي حكمة الحياة القائلة: بدون الخبز لا يستطيع الإنسان أن يحيا! ولعلنا لم ننس بعد أن جماهير الشعب اختارت بعفوية شعارا للثورة، رددته في كل شارع وميدان وهتفت به: »خبز.. حرية.. كرامة«. كانت الجماهير تجتر كل مخزونها الحضاري، وتركزه وتصفيه لتخرج بخلاصة تجربتها علي مر العصور، وهي ترتب أولويات أهدافها الثلاثة المتلازمة التي لا يغني أحدها عن الآخر. فالخبز بدون حرية وكرامة، يجعل من البشر قطيعا من السائمة. والحرية وحدها لا تشبع بطونا ولا توفر كرامة. والكرامة لا يمكن أن يحظي بها من كان جائعا مستعبدا.
ثورة 52 يناير حتي الآن بلا مشروع اجتماعي، يعيد توزيع ثروات الوطن بين ابنائه بعدالة، ويضيق الفجوة بين طبقات الشعب، وينحاز إلي غالبية الجماهير البائسة الكادحة، التي ارتفع سقف طموحاتها عاليا بعد قيام الثورة، وأخذت ترقب الأيام تفوت والأسابيع تمضي دون أن تجني حصادا سوي جدل وتناحر سياسي، وينقل إلي هؤلاء البسطاء شعورا حقيقيا بأن الثورة قامت في الأساس من أجلهم. ربما يقال إن ثورة 32 يوليو كان لها رأس وقيادة واتجاه فكري واحد، فسارعت بإنجاز الخطوة الأولي والأهم لمشروعها الاجتماعي وهي الإصلاح الزراعي، لكن ثورة 52 يناير ليس لها رأس محرك، وشارك فيها في قلب حشود الجماهير تيارات سياسية متباينة، منها الإسلامي والليبرالي والناصري والماركسي، وكل منها له اتجاه مختلف عن الآخر، فهناك من يري بأن العدالة تتحقق بالزكاة والصدقة الطوعية، وهناك من يعتنق عقيدة: »دعه يعمل.. دعه يمر«، وهناك من يؤمن بأن استمرار تشجيع رأس المال هو الوسيلة الوحيدة لفتح أبواب الرزق للفقراء، وهناك من يدعو إلي دور أكبر للدولة في إدارة الاقتصاد وتوزيع ثمار التنمية، وهناك من يعتقد في ضرورة تأميم كل أدوات الإنتاج! وللحق فإن مجلس قيادة ثورة يوليو لم يكن منتميا إلي طبقة اجتماعية واحدة أو اتجاه سياسي بعينه. فكان من أعضاء المجلس أبناء طبقة ثرية مثل عبدالحكيم عامر، وابناء طبقة متوسطة كجمال عبدالناصر، وأبناء طبقة فقيرة كأنور السادات، وكان منهم أصحاب الاتجاه الإسلامي مثل عبدالمنعم عبدالرءوف وكمال الدين حسين وحسين الشافعي، وأصحاب الاتجاه الليبرالي مثل زكريا محيي الدين وكان هناك ماركسيون مثل يوسف صديق منصور. كان منهم من يدعو إلي الديمقراطية والتعددية كخالد محيي الدين وكان منهم من طالب علنا بالدكتاتورية كأنور السادات، وكان منهم من يبدو أقرب إلي الفاشية كجمال سالم! ومع ذلك اجتمع كل هؤلاء الفرقاء علي إنهاء الإقطاع وإعادة توزيع أهم ثروات البلاد وهي الأرض الزراعية ليتملكها الأجراء المعدمون.
إذن ليست هناك ذريعة للقوي السياسية من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار بما فيها من أحزاب وحركات، تمنعها من الالتقاء معا من أجل الاتفاق علي مشروع اجتماعي واحد، تبدأ في تنفيذ خطواته، لتواصلها الحكومة المنتخبة المقبلة، لاسيما أن هذه القوي علي اختلافها لا تجد ما يمنعها عقد الاجتماعات للتوصل إلي حلول وسط للخلافات بينها حول خطوات العملية السياسية وربما لتقسيم الحصص في القوائم الانتخابية والأنصبة في مقاعد الحكومة البرلمانية! ليس هناك ما يحول بين كل الفرقاء الذين جمعتهم ثورة يناير وبين تدشين مشروع اجتماعي للثورة، إلا وهن اعتناقهم لمبادئها وضعف إيمانهم بالجماهير! ربما يقال ايضا ان المشروع الاجتماعي للثورة كالمشروع القومي لها هو مهمة الحكومة البرلمانية والرئيس الجديد، لكن علينا أن نتذكر مجددا أن قرار الإصلاح الزراعي اتخذ بعد 84 يوما من قيام ثورة يوليو وقبل 9 شهور من إنهاء الملكية وفي ظل رئاسة محمد نجيب لمجلس قيادة الثورة، بينما لم تشرع الثورة في تنفيذ مشروعها القومي الأكبر وهو السد العالي إلا بعد 8 سنوات من قيامها. وقد يكون مفهوما، بل لعله التصرف الأنسب أن يترك أمر تنفيذ المشروع القومي لثورة يناير ولعله تعمير سيناء للحكومة والرئيس المقبلين، غير أن المشروع الاجتماعي للثورة الذي يستهدف تحقيق العدالة وإعادة توزيع ثروات البلاد وثمار النمو، هو في الأساس مسئولية مشتركة بين القوي الوطنية التي تتصدر المشهد السياسي، وحكومة الثورة التي جيء برئيسها إلي منصبه من ميدان التحرير والمجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي أعلن منذ اللحظة الأولي تبنيه لأهداف الثورة ومطالب الجماهير.
نظلم الحكومة الانتقالية والمجلس العسكري إذا حملناهما مسئولية مكافحة الفقر وحل مشكلة البطالة والقضاء علي أزمة الاسكان وتوفير مياه الشرب النظيفة والصرف الصحي بكل القري والنجوع والنهوض بالتعليم والرعاية الصحية.. ذلك أن إنجاز هذا البرنامج يستغرق سنوات ويتطلب توافر اعتمادات مالية ليست متاحة في الظروف الاقتصادية الحالية. غير أن هناك اجراءات مبدئية وخطوات أولية لابد من اتخاذها علي الدرب الطويل لتحقيق العدالة الاجتماعية، تؤكد أن ثورة يناير قامت من أجل استرداد ثروات الشعب المنهوبة وإعادة توزيع الدخل علي نحو أكثر عدلا وانصافا، وتثبت انحياز الثورة للبسطاء والفقراء والمعدمين. وفي رأيي المتواضع أنه يمكن الشروع في حزمة واحدة من الخطوات التالية: صرف معاش شهري في حدود 003 جنيه علي الأقل وليكن اسمه معاش 52 يناير للأسر المعدمة فاقدة العائل أو التي تعولها أرملة أو مطلقة، وقد أقترح أن يكون تمويل اعتمادات المعاش من فارق سعر الغاز المصري المصدر للخارج بعد تعديله، لاسيما أنه ما كان من الممكن أن يعاد النظر في هذا السعر لولا قيام ثورة 52 يناير. إنشاء بنك الأسرة »بنك الفقراء« لتقديم قروض حسنة أو بفائدة ضئيلة لا تزيد علي 1٪، في حدود 5 آلاف جنيه، لربات الأسر الفقيرة، أو عائلي الأسر المعدمة، تيسر عليهم البدء في تجارة صغيرة محدودة، كتربية الدواجن أو الخراف أو بيع الخضر والفاكهة، مع وجود اشراف لمنع انفاق القرض في أغراض غير المخصص لها. تعديل شروط الإقراض بالصندوق الاجتماعي للتنمية، لتيسير الحصول علي القروض وتخفيض الفائدة عليها لتحقق الغرض منها في تسهيل اقامة مشروعات لشباب الخريجين. تخصيص أراضي مشروعات ترعة السلام بسيناء وتوشكي وشرق العوينات والأراضي الأخري التي استصلحتها القوات المسلحة في الساحل الشمالي وأسيوط للشباب خاصة حملة بكالوريوس الزراعة، وتوفير قروض لشركات الشباب الصغيرة بفوائد ضئيلة لنقل وتسويق منتجات هذه الأراضي أو تصنيعها. العودة إلي نظام الإيجار في الوحدات السكنية منخفضة التكاليف التي تقيمها الدولة في المدن الجديدة للمقبلين علي الزواج، ويمكن البدء في هذا النظام مع انشاء مشروع المليون وحدة الذي تتبناه وزارة الاسكان. مثلما حدث مع قانون الغدر الذي فتشت عنه وزارة العدل في أضابير ترسانة التشريعات الموءودة، يمكن أن ننفض الأتربة عن تشريع يسمح بالمصادرة لصالح الدولة في المشروعات التي أقيمت بأموال الشعب وتم الاستيلاء عليها ظلما وعدوانا كمشروع حديد الدخيلة، والشركات التي جرت خصخصتها بآلية الفساد وبيعت للمحظوظين بتراب الفلوس بجانب مصادرة الأراضي والأموال التي يملكها رموز الفساد بعد ثبوت ادانتهم.. ولعل هذا الإجراء هو الأهم إذا كنا نريد فعلا أن نعيد للشعب مقدراته المنهوبة. إلغاء بيع أراضي الدولة والعمل بنظام حق الانتفاع المؤقت، ذلك أن هذه الأراضي هي الثروة الحقيقية للبلاد وهي ملك لكل الأجيال، ولا يجوز تركيزها في أيدي عائلات. وأمامنا تجربة روسيا في هذا المجال، رغم اتجاهها للأخذ بنظام اقتصاد السوق. إعادة النظر في نظام الضرائب، للعمل بالضريبة التصاعدية التي تصل في دول كبري متقدمة رأسمالية إلي 04٪، دون أن يتهم أحد حكوماتها بأنها ضد الاستثمار ومعادية لرجال الأعمال. مع استغلال الحصيلة في تمويل المشروعات الاجتماعية كالتأمين الصحي والنهوض بالتعليم الحكومي والإسكان الشعبي.
.. هناك كثير من الأفكار يمكن الأخذ بها وتبنيها في سياق تدشين مشروع اجتماعي لثورة 52 يناير، لو انعقد العزم. ولعلي لا أغالي، إذا قلت إن افتقاد ثورة 52 يناير لمشروع اجتماعي يثبت انحيازها للغالبية الكاسحة من جماهير الشعب، ينذر بموجة ثانية لثورة جياع تنطلق من أحزمة الفقر والعشوائيات حول العاصمة، ومن القري المعدمة في الصعيد والوجه البحري. باختصار.. ليست هناك ثورة بدون إجراءات ثورية.