لم يعد اتخاذ خطوات شديدة التواضع لاحتواء الأزمة مع إسرائيل إلي أن تمر »العاصفة« يصلح لعهد ما بعد ثورة 52 يناير. وكلنا نذكر ما حدث بعد عرض الفيلم الوثائقي الإسرائيلي »روح شكيد« عام 7002، فقد ثارت ثائرة المصريين، وتصاعدت موجات غضبهم بعد أن كشف الفيلم تفاصيل جريمة قتل مئات الأسري المصريين في منطقة العريش عقب نزع سلاحهم غداة انتهاء حرب 7691، وكيف وعد المسئولون في ذلك الوقت باتخاذ خطوات حاسمة وفعالة.. ثم هدأت الأمور بعد مرور الوقت، وظهر أنه لم تحدث أية خطوات حاسمة أو فعالة أو حتي.. محدودة. الآن.. تؤكد المصادر الإسرائيلية أن قوي الأمن في إسرائيل كانت علي علم بعملية ايلات، التي قام بها مسلحون وأسفرت عن مقتل ثمانية إسرائيليين، وأن الأجهزة الأمنية تلقت تحذيرات من عملائها حول الخطة الكاملة للهجوم في ايلات وعن عدد المسلحين ونوع الأسلحة التي سيستخدمونها.. وتضيف المصادر الإسرائيلية ان إسرائيل دفعت بقوات كبيرة من الجيش والوحدات الخاصة وعناصر جهاز الأمن الداخلي »الشاباك« إلي المنطقة المستهدفة... إلخ... ولكن.. ما الذي حدث بعد كل ذلك؟ قام الجيش الإسرائيلي بإخلاء كمين عسكري عند منتصف الليلة السابقة علي الهجوم المنتظر، واستغل المسلحون هذا الإخلاء »غير المفهوم علي حد تعبير صحيفة معاريف الإسرائيلية« ليتسللوا من ذلك الموقع لتنفيذ عمليتهم!.. ومعني ذلك ان العملية الهجومية وقعت كما كان مخططا لها، بل ان الجيش الإسرائيلي ساهم في تنفيذها عندما أزال كمينا عسكريا ليتسلل منه المهاجمون! ومن هنا يطالب »اڤي ديختر« رئيس »شاباك« السابق بإجراء تحقيق عسكري دقيق في إسرائيل بشأن تعامل الجيش الإسرائيلي مع انذارات حول خطة لتنفيذ هجمات قرب الحدود المصرية الإسرائيلية. وتؤكد صحيفة »معاريف« الإسرائيلية ان خلافات نشبت بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وقيادات من الجيش الإسرائيلي بسبب تقاعس القيادة العسكرية الإسرائيلية الجنوبية عن أداء مهامها واتخاذ الاحتياطات الواجبة رغم وجود معلومات مسبقة عن الهجوم. يلفت النظر أيضا أن الأحداث الأخيرة علي الحدود وقعت بعد انفجار بركان الغضب الاجتماعي ضد حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية العنصرية المتطرفة علي نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ إسرائيل. واستمرت حملة الاحتجاج داخل إسرائيل منذ أكثر من شهر للمطالبة بتحسين الحالة المعيشية للطبقات الوسطي والفقيرة، وبلغ عدد المتظاهرين في تل أبيب وحدها ما بين ربع مليون وثلاثمائة ألف متظاهر يريدون تحقيق العدالة الاجتماعية وإنهاء تحكم الاحتكارات في رقاب الناس. وتقول رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية، القاضية »دوريت بينيش« ان جميع شرائح المجتمع الإسرائيلي أصبحت تطمح لإقامة »النظام الاجتماعي الجديد« وإعادة توزيع الموارد بين طبقات الشعب، بل و»إعادة صياغة الثقافة والساحة السياسية أيضا«. ويعتقد بعض المثقفين في إسرائيل أن هذه الاحتجاجات كان يمكن أن تؤدي إلي تغيير البنية السياسية والحزبية، وبالتالي فإن جوهر هذه الاحتجاجات هو »تغيير النظام«. وأخطر ما تمثله حركة الاحتجاجات داخل إسرائيل هو تهديدها »للبقرة المقدسة التي لا يمكن المساس بها«، وهي الموازنة العسكرية التي تشكل ربع موازنة الدولة العبرية، في وقت تطالب فيه القيادة العسكرية الإسرائيلية بزيادة ضخمة في هذه الموازنة »لضمان مواجهة أخطر السيناريوهات المتوقعة«، وخاصة بعد غياب حسني مبارك(!!) وظهور بشائر الربيع العربي! ولذلك بدأت دوائر إسرائيلية تتحدث عن احتمال إقدام نتنياهو علي الخلاص من الأزمة الداخلية عن طريق اللجوء إلي مغامرة عسكرية علي الحدود، وهو الأسلوب التقليدي للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية الحاكمة، أي تصدير الأزمة الداخلية إلي الخارج، وهو ما فعلته إسرائيل في السابق، حيث ان الوسيلة الناجعة لمواجهة أي محاولة لتخفيض الموازنة العسكرية لتلبية المطالب المعيشية للإسرائيليين هي إثارة أجواء الرعب بين سكان إسرائيل حول وجود أخطار داهمة تهدد أمنهم وكيان دولتهم حتي تستمر الزيادة في الاعتمادات المالية للجيش الإسرائيلي. وتحقق بالفعل ما يريده نتنياهو. فقد أعلن اتحاد الطلاب الجامعيين في إسرائيل إلغاء مظاهرة كانت من المقرر ان تجري في القدس في إطار الاحتجاجات علي غلاء المعيشة، كما تم الإعلان عن إلغاء مظاهرتين في وسط وشمال إسرائيل، وألغيت قافلة السيارات التي كان من المفترض ان تنطلق من تل أبيب حتي الجنوب. وقال معلقون إسرائيليون ان الهجمات في ايلات »جاءت في الوقت المناسب« بالنسبة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، وأن ما حدث في ايلات ألحق الضرر بحركة الاحتجاج في اسرائيل، وساعد نتنياهو علي ان يجد نفسه في الملعب الذي يستهويه ويشعر فيه بأكبر قدر من الارتياح.. وسيكون من الصعب الآن المطالبة بتخفيض الموازنة العسكرية، وسيكون من السهل زيادة هذه الموازنة.. حتي يمكن تكثيف »الاستعدادات المطلوبة« لمواجهة »التطورات في مصر بعد سقوط مبارك«، وخاصة إزاء »الكراهية المتزايدة في مصر.. لإسرائيل«. وجاءت أحداث ايلات مع اقتراب شهر سبتمبر، وهو الموعد الذي ينتظره الفلسطينيون لإعلان الأممالمتحدة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة علي أراضي الرابع من يونيو عام 7691 بعد أن فشلت كل محاولات نتنياهو لمنع الفلسطينيين من التوجه إلي الأممالمتحدة. وهناك تيار قوي في إسرائيل يقوده وزير الخارجية العنصري اڤيجدور ليبرمان وعدد آخر من الوزراء كان يدعو، منذ بعض الوقت، إلي اتخاذ خطوات لمعاقبة الفلسطينيين علي سعيهم للحصول علي اعتراف دولي بدولتهم. إسرائيل تعتبر ان معاهدة السلام بينها وبين مصر.. عنصر جوهري لبقائها في الشرق الأوسط.. ويقول ناحوم بارنيع، المعلق السياسي لصحيفة يديعوت الإسرائيلية ان بوسع إسرائيل ان تسمح لنفسها بأن تخسر تركيا.. لكن »ثمن خسارة مصر سيكون باهظا جدا«.. وتعتقد إسرائيل انها بدون مبارك وبدون ملك آخر، يخاف علي عرشه،.. فإن ما سيأتي به المستقبل سيكون أسوأ بكثير.. وأكبر خطأ يقع فيه العدو الإسرائيلي هو ان يتصور ان الأراضي المصرية مستباحة، وأن من حقه انتهاك الحدود وقتل أفراد قواتنا داخل حدودنا وعلي أرضنا.. تحت أي ذريعة، أو انه يريد أن يعرف مدي الاختلاف بين رد فعل النظام السابق ورد فعل الثورة تجاه مثل هذه الجرائم. ونظرا لأنها ليست الجريمة الأولي من نوعها، فإنه لا يكفي إدانتها أو تقديم احتجاج أو المطالبة بتقديم اعتذار رسمي أو إجراء تحقيق »نتيجته معروفة سلفا«، وإنما ينبغي طرد السفير الإسرائيلي في القاهرة وسحب سفيرنا في تل أبيب، والتحرر من القيد الذي فرضته المعاهدة علي عدد جنودنا الذين يرابطون علي حدودنا أو في سيناء.