الأحداث الجسام تكشف عن معدن الرجال العظماء، وقد مرت مصر بأحداث جسام، اختبر فيه الشعب المصري قوته وعرف فيه قامته، فكان المشير حسين طنطاوي بموقفه الحاسم يعادل كتيبة كاملة من الثوار. فطبقا لشهادة أحد أركان نظام مبارك وهو الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المنحل، في حديثه الشهير إلي الصحافة المصرية عقب سقوط نظام مبارك، كان المشير طنطاوي قد أعلن في حزم ووضوح عند أول اجتماع لأركان النظام السياسي السابق أنه لن يستخدم القوات المسلحة في ضرب المتظاهرين، فذهب الزبد جفاء، ووضحت شخصية الرجل وتأكد معدنه، فقد حمي مصر وشعبها من »مقتلة« عظيمة كتلك التي تحدث في ليبيا أو سوريا أو اليمن، فالمشير طنطاوي ليس كرجل من آحاد الناس ولكنه القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وأحد أبطال حرب أكتوبر مهيب الطلعة بما يحمله من مجد عسكري، متواضع الطباع، ومتواضع الشخصية بما يجعله يعزف دائما عن تصدر المشهد، أو أن يكون في بؤرة الأضواء. وقد تناثرت في السنوات الماضية بعض تصريحات نسبت إلي المشير طنطاوي حول ضيقه لبيع القطاع العام وعدم رضاه عن قضية التوريث مستلهما ذلك من رؤيته ورؤية قادة وضباط القوات المسلحة وعن طبيعة نظم الحكم والسياسة في مصر وهي مستمدة كذلك من رؤية شعبية عارمة ولكنها ايضا مكتومة، كانت هذه الأقاويل تسري بيننا فتبعث فينا الأمل بأن في مصر رجالا قادرين علي تعديل مسار التاريخ. فلما اشتعلت الثورة كان الرجل حاسما في الانحياز إلي ثورة الشعب المصري، أعلن أنه والقوات المسلحة معه في حماية الشعب، وأن رصاصاته لن توجه أبدا إلي صدور أبناء هذا الشعب، ذلك موقف تاريخي، لأنه لا يغيب عن ذهن أحد ان القوات المسلحة بما تحمله من انضباط في التقاليد العسكرية التي تقضي بتنفيذ الأوامر العسكرية فور صدورها، كان من الممكن ان نتعرض لفتنة عظيمة لو أن علي رأسها رجلا لا يقدر المسئولية التاريخية، لكن الله حمي مصر وحمي جيشها بأن قضي أن يكون علي رأس هذا الجيش رجل في قامة المشير طنطاوي الذي لم تلتبس عليه الرؤية، فأعلن ان قواته المسلحة سوف تكون في حماية هذا الشعب، ورغم الضغوط الهائلة التي مورست علي القائد العام وعلي جنرالاته إلا انه هو ورجاله من قادة الأسلحة كانوا علي مستوي اللحظة التاريخية بامتياز، وذلك الموقف كان قاصما لظهر النظام السابق، الذي ادرك ان القوات المسلحة المصرية هي جيش وطني عقيدته الوحيدة هي الدفاع عن مصالح هذا الشعب وعن ترابه الوطني، قيادته صلبة لا تحكمها العواطف، وتلك هي مقادير الرجال العظماء حينما يكون عليهم الاختيار في اللحظات التاريخية الحاسمة التي تشكل مستقبل الوطن.. كيف واجه المشير ما كان يدس من مؤامرات من قيادات النظام السابق، وكيف كان يتحرك وسط المظاهرات في ميدان التحرير في الايام الاولي للثورة وهي علي اشدها وعنفوانها في شجاعة فائقة تنم عن رجل يحمل رسالة وهموم وطن نسي خلالها نفسه كأنسان، دون ان يخشي اغتياله حيث الامن غير متوافر ودون حراسات حيث لا تنفع حراسة وسط الجماهير الغاضبة لكنها الثقة في الله وفي النفس وفي رجال القوات المسلحة وحديثه معهم بان »مصر محتاجاكم« وقيامه بتهدئة المتظاهرين وتعامله بهدوء شديد وثقة ولم يحاول ان يقابل ما وضع من مضايقات من اذناب النظام السابق بعصبية أو انتقام والازمة علي اشدها وفي ذروتها. تحرك المشير طنطاوي وسط المواطنين والثوار والذين بادلوا ثقته فيهم بثقتهم الكاملة فيه وفي رجال القوات المسلحة، في الوقت الذي كانت عيناه علي الحدود المصرية. ربما قرأ رجال أركان النظام السابق في تصريحات المشير طنطاوي حزما لا يقبل المساومة، فما لم يقله صراحة انه لن يكتفي بعدم إطلاق النار علي الشعب، بل انه سوف يقف أمام أي سوء لاستخدام القوة في التعامل مع الثوار الذين حملوا مطالب الشعب إلي جميع ميادين الوطن. كان حسم الرجل قاطعا وهو ما أدي إلي تبخر كل الأوهام، كل أوهام القوة الزائفة التي عششت في دماغ رأس النظام السابق، والتي سارعت بسقوطه فماذا تبقي له حينما يثور عليه شعبه، حينما يعلن جيشه انه ينحاز للمطالب الوطنية لهذا الشعب؟!. لعل هذا الموقف التاريخي من المشير طنطاوي يكشف سر الألاعيب التي يلعبها الدفاع عن النظام السابق والذي يطالب بسماع شهادة المشير طنطاوي في المحكمة، فلم يكن النظام السابق في وضع يسمح له بأن يصدر امرا رئاسيا للقوات المسلحة بضرب هذا الشعب، فهو يعلم مسبقا موقف القائد العام لهذه القوات. وهذا أيضا يعلم ان رفض قائد هذه القوات لتنفيذ الأمر ليس له إلا معني واحد وهو ان يقوم باعتقال رأس النظام السابق.. فالمنحي الذي ذهب إليه الدفاع في تبرئة ساحة الرئيس السابق من اصدار أمر للقوات المسلحة بإطلاق النار علي الشعب ليس القصد منه إلا التلاعب بالحقائق التاريخية التي أثبتت ان المشير طنطاوي والمجلس العسكري ومن ورائهما الجيش المصري المجيد هم علي قلب رجل واحد، وعقيدة قتالية واحدة تربوا عليها وهي ان أسلحتهم من أجل الدفاع عن هذا الشعب، وهو ما أكدته الحوادث عندما فقد النظام أعصابه وأخذ يتخبط في قراراته بشكل بات يهدد الأمن القومي المصري، انعقد المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي لكي يرسل رسالة واضحة صريحة إلي أركان هذا النظام السابق، وهي ان الجيش الوطني المصري بكل قدراته العسكرية يتفهم ويقدر مطالب الشعب المصري وذلك بيان واضح يعني عمليا ان علي هذا النظام ان يرحل غير مأسوف عليه، وإلا فإن القوات المسلحة سوف تفرض عليه الرحيل. ربما يمر وقت طويل قبل أن تتكشف وقائع الأيام الأخيرة لهذا النظام لكن المؤكد ان موقف الجيش المصري كان مثالا رفيعا في الوطنية، وأن موقف المشير طنطاوي قائد هذا الجيش كان يعدل موقف كتيبة كاملة من الثوار، وهو صانع أساسي من صناع هذه الثورة وبطل من أبطالها. ولا محل أمام هذا الموقف الشامخ للقيادة العسكرية المصرية التي قادت دفة البلاد في أصعب الظروف من أن تثار حولها شائعات تافهة تحاول النيل من موقفها الوطني الشامخ عن طريق افتراض ان هناك اتفاقا غير معلن مع مبارك لحمايته من المساءلة أو لجعل محاكمته محاكمة شكلية، ذلك لأن القيادة العسكرية المصرية لم تتردد في حسم موقفها منذ اللحظة الأولي ولو كانت قيادة مساومة أو الحلول الوسط لكان باستطاعتها أن تتدخل في السيطرة علي المظاهرات أو محاولة إجهاض فعاليتها، ولكنها لم تفعل بل وضعت رجالها بأسلحتهم علي مشارف الميادين الكبري لكي لا تسمح للفلول ولا لأتباعهم بالتعدي علي المتظاهرين، وحينما حدثت موقعة الجمل فإنه طبقا لبعض الأقاويل التي تسربت فإن المشير طنطاوي قد قام بتعنيف رأس النظام السابق تعنيفا شديدا، ثم دعا المجلس العسكري للانعقاد للنظر في وضع حد نهائي لسلطة مبارك. ومن كانت هذه مواقفه لا يمكن الشك أبدا في انه يساوم، أو يقوم بمجرد التفاهم مع أركان نظام كان علي وشك أن يثير فتنة ويشعل حربا أهلية أو ان يعقد أي اتفاق أو يساوم مع فصيل سياسي أو تيار ديني أو أي تجمع مهما كانت الظروف لان عقيدته هي الدفاع عن مصالح الشعب المصري وترابه الوطني.. فالتحية كل التحية والتقدير والاحترام للمؤسسة العسكرية وعلي رأسها المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس الاعلي للقوات المسلحة.