السما بتتكلم عربي .. الفضاء يتحدث إلينا باللغة العربية .. فمع إطلاق المحطة التركية »تي.آر.تي« مؤخرا أصبح العدد المتزايد للفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية يشكل ظاهرة إعلامية تستحق التأمل ... فبين »روسيا اليوم« و »فرنسا 24« و »بي.بي.سي« البريطانية و»الحرة« الأمريكية و»سي إيه تي في« الصينية نواجه إجتياحا إعلاميا وغزوا ثقافيا يدفعنا إلي طرح سؤال وجيه : لماذا كل هذا الإهتمام ؟ صحيح أن منطقتنا ليست غريبة عن هذه الظاهرة التي تعبر عن أسلوب خاص كلاسيكي تعود جذوره الي منتصف القرن الماضي علي الأقل .. فمن منا لا يتذكر سطوة إذاعتي »بي.بي.سي« ونظيرتها »صوت امريكا« في الستينيات والسبعينيات علي المستمع العربي .. وحتي إسرائيل استطاعت أن توجد مستمعا عربيا من خلال إذاعتها الناطقة بالعربية .. في الوقت الذي كانت محطاتنا الرسمية تفتقر إلي مصداقيتها في أعقاب نكسة 67.. ولكن تري ما الذي يدفع حكومات روسياوفرنسا وبريطانيا وأمريكا والصين وتركيا وربما اليابان وأستراليا قريبا .. إلي إستهداف منطقتنا من خلال إطلاق فضائيات مرئية - هذه المرة - ناطقة بلغة الضاد ؟! اللهم إلا إذا كان ذلك يرجع إلي أهمية العرب ومنطقتهم في الصراع الإستراتيجي والإقتصادي العالمي .. أو أن يكون ذلك إشارة واضحة علي تراجعنا الحضاري وسهولة إختراقنا بحيث أصبحنا نعامل كتابعين في منظومة العولمة !.. الأرجح في رأيي أن الدافع مزيج من هذا وذاك. لكل دولة أهدافها .. فأمريكا أطلقت »الحرة« في أعقاب هجمات سبتمبر في محاولة لتحسين صورتها في المنطقة ومواجهة التطرف الديني ونشر مباديء الديمقراطية كما تريدنا أن نراها بعيونها .. وروسيا التي لها مصالح هنا تحاول البناء علي بقايا حنين قديم لدي شعوب المنطقة تجاه الإتحاد السوفيتي صديق العرب .. وفرنسا التي لها خبرة من خلال »راديو مونت كارلو« تسعي اليوم إلي التأكيد علي إتصالها بالمنطقة العربية .. و الصين التي تبعدنا عنها ليس فقط آلاف الأميال ولكن العادات و التقاليد و اللغة أيضا أيقنت أن مصالحها باتت اليوم حتمية مع العرب و تبحث عن التقارب معهم .. وتركيا التي تتبع سياسة جديدة بالإنفتاح علي الجار العربي تحاول الإقتراب منا بعد عقود من الإغتراب وطرق أبواب أوروبا .. لتعود بلاد الأناضول لغزونا ليس بالسلاح ولكن هذه المرة بالعقل ! والسؤال الآخر .. هل ستنجح هذه الفضائيات في التأثير علينا ؟ الإجابة البديهية تكون .. لا .. والسبب هو التغير الذي طرأ علي بنية النظام الإعلامي العربي متأثرا بثورة المعلومات ونتائج ذلك المباشرة علي طبيعة المجتمعات العربية وانفتاحها.. فاليوم لم يعد المتلقي العربي يعاني من نقص في المعلومة أو الخبر أو التعبير .. علي الأقل مقارنة بعقود خلت .. بل لعل المشكلة تكمن في فائض وسائل الإتصال ووفرة سبل تبادل المعلومات مما يكرس لظاهرة تشرذم المشاهد واختياره للوسائط التي يريدها من فضائيات وإذاعات وإنترنت وبكل حرية .. أما الإجابة المتأنية علي السؤال .. فهي بكل تأكيد .. نعم .. فهذه الدول الكبري التي قررت إطلاق فضائيات ناطقة بالعربية ورصدت لها أموالا باهظة لم تتخذ هذه الخطوة إعتباطا وإنما بعد دراسات مستفيضة عكف عليها خبراء ومتخصصون أسفرت عن جدواها وتأثيرها العميق علي المشاهد الذي يتجرع أفكارها دون أن يدري وهو جالس في بيته متكئا علي الأريكة متسمرا أمام شاشة التليفزيون .. فيكون مفعولها في النهاية مثل الحقنة تحت الجلد التي ندمنها دون أن نعي .. ! خاصة وأنها جميعا فضائيات جذابة تقدم الخبر والمعلومة في سلاسة ودون عقد وتتوافر لديها التقنيات الحديثة وتتنوع بين البرامج الترفيهية والثقافية والسياحية والدرامية التي تربطنا بهذه المجتمعات الغريبة علينا لتصبح جزءا من نمط حياتنا ..! ولنتذكر علي سبيل المثال المسلسل التركي »نور« الذي جذب آلاف المشاهدين في مصر عندما أذاعه التليفزيون المصري.. هذه الظاهرة خطيرة وتستحق الإنتباه .. لأن الهدف في النهاية هو الغزو الثقافي .. لنا نحن العرب !! ..