شهدت الأيام الماضية آراء مختلفة علي التعديلات الوزارية من قِبَل مجموعات مختلفة من الشباب، مما أدي إلي إحداث "ربكة" في أروقة مجلس الوزراء وإعياء د.عصام شرف رئيس الوزراء من كثرة الجهود والضغوط الواقعة عليه. وتم تغيير بعض الوزراء الذين تم تقليدهم منذ عدة شهور أو منذ أيام بغرض كونهم أعضاء بأمانة السياسات أو ذوي صلة بالنظام السابق المشهود لهم بالكفاءة والمصداقية، وكذلك الحال في رفض البعض للقيادات بمؤسسات الدولة المختلفة أو بالجامعات؛ كونهم تم تنويطهم من قِبَل النظام السابق، وطلب البعض حرمان جميع أعضاء الوطني من مزاولة حقوقهم السياسية، والأصل في طرحي لهذا الموضوع ليس اعتراضا علي الوزراء الجدد لأن الكل يشهد لهم بالكفاءة أيضا ولاتحيز لأفراد أو مجموعات لأنه لا تربطني بهم أي مصالح مشتركة بقدر ما هو نابع من قلقي وخروجي من صمتي الذي هو معبر عن رأي الأغلبية بالشارع من عامة الشعب والطبقة المثقفة التي لا تنتمي لحزب معين، وأيضا لاندهاشي لأسلوب تقييمنا لكثير من الأمور من خلال النظرة العمومية، وهو ما يسمي في علم الإدارة في تقييم الأفراد "بخطأ الهالة"، بأن ننتقي صفة أو شيئا معينًا في الفرد ونقوم بتجسيمه علي حساب الأشياء الأخري، دون اللجوء للموضوعية في التفكير، وهو خطأ من أخطاء التقييم للأفراد؛ لأن به من التحيز، وإن كان أعضاء الوطني السابقون أعدادهم حوالي 3 ملايين أو أكثر، وكان أغلب مؤسسات الدولة تنتمي للنظام السابق، لأنه كان هو الحاكم آنذاك، هل معني ذلك أن ندين أي فرد لمجرد انتمائه للوطني أو تم تقليده أي منصب بالدولة وقت النظام السابق دون وجود أدلة ثابتة تدينه بفساد أو أي تقصير يذكر؟ وكيف سيتم حصر الأفراد الذين كانوا ذوي صلة بالنظام السابق ولكنهم لم يكونوا أعضاء بالوطني؟ فلا يمكن أن نتعامل مع كل الأمور المستقبلية التي تخص مستقبل البلد بهذا المنطق الغريب، ونعزم الاختلاف والاعتراض علي أي قرارات لمجرد الإصرار علي وجهة نظر شخصية، دون الأخذ في الاعتبار آراء الآخرين، ويبقي الحال علي الاعتصامات والاحتجاجات لاستعجال المطالب دون النظر لمصلحة الوطن في دفع عجلة الإنتاج ومواصلة الأعمال. ولعل ما مر بنا من أحداث في أعقاب الشهور الماضية ذكّرني بدرس ياباني في ثقافة الحوار والتفاوض أثناء تمثيلي لمصر في بعثة سفينة السلام اليابانية عام 1990 في بلاد مختلفة حول العالم، وكان من ضمن الأنشطة الثقافية علي السفينة إدارة حلقات نقاش حول موضوع ما، وكان لا بد من تقسيم شباب العالم بالمركب والبالغ عددهم 750 شابًّا من جنسيات مختلفة إلي مجموعات عمل من 12 إلي 15 فردًا، بحيث تتولي كل مجموعة من جنسيات مختلفة موضوعا معينا، وطلب البروفيسور الياباني "تاكتاكا" أو مستر تاكتاكا المختص بالعلاقات الدولية طرح موضوع للنقاش، فطرح شاب إيطالي موضوع نقاش: هل يمكن أن نتيح للأب إجازة الوضع بدلا من الأم بعد أسبوعين من ولادة المولود بغرض نزول الأم عملها ومراعاة الأب للمولود لتوطيد العلاقة بينهما ؟ وطبعا ما أن ذكر هذا الموضوع حتي (قامت الدنيا ولم تهدأ عليه) بوابل من التوبيخ والاستخفافات، وساد النقاش بصوت عالٍ، وحلّت الفوضي، وكان علي وشك أن يطالبه البعض بأن ينزل من السفينة في أقرب ميناء، وطلب منا مستر تاكتاكا أن ننقسم إلي فريقين، بين فريق مؤيد وفريق معارض لهذه الفكرة، وأن يتحاور كل فريق علي حدة، ويأتي بمبرراته بعد ساعتين من التفكير الجيد بشكل منطقي، وما إن رجعنا إلي مناقشة الموضوع بين المؤيدين والمعارضين أمام البروفيسور الياباني حتي حدد ثلاثة عناصر كشروط الالتحاق في المناقشة لكل فريق وهي: 1- عقد النية أولا للوصول إلي أرضية مشتركة بين الفريقين من خلال الحوار الهادئ المنطقي. 2- عدم مقاطعة بعضنا البعض أو رفع أصواتنا عند النقاش. 3- اتباع مبدأ الكسب المتبادل للطرفين. وهكذا دار النقاش في محاولات الفريقين الالتزام بقواعد النقاش حتي وصل بنا الأمر من خلال مساعدة مستر تاكتاكا إلي استخلاص الآتي: أن الشعوب التي لا تسمح ثقافتها أو تتقبل فكرة أن يجالس الأب المولود وتنزل الأم للعمل فترة إجازة الوضع ممكن عليها أن تتبع ذلك طالما أنه يتوافق مع ثقافة شعبها، أما الشعوب التي لا تسمح ثقافتها بذلك فلا تعمل بهذه الفكرة. وكان الدرس المستفاد لنا من البروفيسور الياباني أننا مهما اختلفنا في الرأي مع بعضنا البعض بالرغم من اختلاف جنسياتنا أو خلفياتنا، فيمكن أن نصل في النهاية إلي أرضية مشتركة لو أتحنا الفرصة لبعضنا البعض أن نسمع وجهة نظر كل منا بهدوء وبدون مقاطعة، ونقتنع أنه لا يمكن أن نحصل علي كل شيء في آن واحد؛ لأن الحوار كسب متبادل للأطراف المشاركة فيه، وهذا هو فن تعلم ثقافة الحوار والتفاوض، حقا إننا في أشد الحاجة إلي "مليونية تاكتاكا" في كل حواراتنا حتي نمر بهذه المرحلة بسلام.