يظل الدور الذي لعبه الجيش المصري في ثورة يناير المجيدة، وانحيازه إلي الشعب فصلاً هاماً في التاريخ المصري، سنعلمه لأبنائنا حين تسمح الظروف، وتتكشف كل التفاصيل المتعلقة به، وبما فعله أبطال ذلك المشهد الفريد من أجل بلدنا وشعبنا. ولا ينفصل عن الدور تلك المكانة التي احتلتها القوات المسلحة في نفوس أبناء مصر عبر عهود وعقود باعتبارها العمود الفقري للفكرة الوطنية المصرية، والجهة التي نناديها حين خطر، أو أزمة، أو كارثة. ولعلي من أكثر الكتاب الذين في السنوات العشر الماضية سطروا في ذلك المعني عشرات المقالات، وبالذات حين بدا أن رجال أعمال الحزب الوطني المنحل، أقاموا رءوس جسور في الحكومة، وباتوا وزراء لهم مشروع سياسي دفعوا إليه للاستيلاء علي الحكم. نعم.. كنت أنادي الجيش بإلحاح في أحاديثي الإذاعية ومقالات »الشوارعيزم«، حين بدا واضحاً أن البلد يتم اختطافه إلي جهة غير معلومة.. وكنت أعقد مقارنة مزمنة بين إدارة الجيش، وإدارة رجال الأعمال، مترجماً تلك المقارنة إلي عدد من المعادلات.. »الطهارة في مواجهة الفساد«، أو »الوطنية في مواجهة التبعية«، أو »المعايير في مواجهة التفضيلات«، أو »الانحياز إلي الشعب في مواجهة التسيد عليه«. وكانت إحدي المناسبات التي أطرح فيها تلك المفاهيم باستمرار هي شهر تخريج الدفعات من الكليات العسكرية، الذي يتوج تقليدياً باحتفال الكلية الحربية. هذا العام سيكون الاحتفال غير كل سنة، لأن التحاق دفعة جديدة من الضباط للخدمة يأتي الأول بعد ثورة يناير التي بالقطع ألهمت أولئك الشباب وعلمتهم كما أنه يجيء في ذكري مرور قرنين علي إقامة أول مدرسة عسكرية في تاريخ مصر لتخريج ضباط الجيش في عهد محمد علي باشا عام 1181. مائتا عام من المجد.. هو تاريخ العسكرية المصرية الحديثة، التي دقت أبواب القسطنطينية شمالاً بشرق، وشارفت طلائعها منابع النيل والحجاز وجغبوب جنوباً، وشرقاً، وغرباً، لتحمي مجال الأمن القومي أيام كانت تلك الحماية تتحقق بالوجود، وليس بالنفوذ. ثم هي بالوزن والحضور المعنوي والهيبة في سياق زمني آخر صارت رادعاً يصون حدود البلد، وترابه الوطني. وهي كذلك التي قاتل أبناؤها في حرب الاستنزاف المجيدة ضد الظروف، وضد توازن القوي المباشر مع العدو، أو الاقليمي والدولي بعامة، وهي التي عبر رجالها قناة السويس في مشهد أسطوري عام 3791 معلمين الشعب كله أن »مصر تقدر« حين تثق في أبنائها. وفي يناير وثقت القوات المسلحة في أولاد الشعب، واستقبلت جموع الشباب أفواج الدبابات والمصفحات، وأفراد التشكيلات التي حققت الانتشار بسرعة مدهشة لحماية الثورة، بمحبة وحماس جارفين، إذ كانت اللحظة تعني بقول واحد إن الثورة انتصرت. الآن.. توشك الكلية الحربية علي تخريج دفعة جديدة من أولادنا وأشقائنا، في ظل مناخ يطالب باستكمال البناء الديمقراطي وصولاً إلي الحرية والعدل الاجتماعي.. هدفي الثورة وأيقونتها اللذين لن يغيبا أبداً.. شباب تعلم غياب الفرد في الكتلة، فإذا بنا حين ننظر إلي مربعات طابور التخرج، أو استعراض المهارات، لانجد سوي مئات الرءوس الحليقة، والوجوه التي لوحتها الشمس، وسناكي السلاح تبرق كشهب خاطفة، والأيادي بالقفازات البيضاء تعلو وتهبط معاً كأسراب الحمام. شباب أقسم ألا يترك سلاحه قط حتي يذوق الموت.. شباب أحسن معلموه تربيته علي أن يلبي احتياج البلد حين يناديه للاستشهاد، فيفعل دون تردد من أجل قيمة رمزية ومعنوية اسمها الوطن، وناس ذلك الوطن.. شباب يتطلع إلي المثل الأعلي الذي يمثله القادة، ويريد أن يكون مثلهم منحازاً.. منحازاً إلي الشعب. مائتا عام من المجد.. انتقل فيها مقر الكلية الحربية من القاهرة »حيث انضم إليها عناصر من أبناء المماليك وبعض أولاد الأتراك«، إلي أسوان عام 0281 بالقرب من مجال الحركة والاشتباك لقوات محمد علي في السودان، وسلم محمد علي إدارة المدرسة لسليمان باشا الفرنساوي لتخريج ضباط يعتمد عليهم في بناء الجيش الحديث، والوفاء بمهامه واحتياجه، »بالمناسبة كان هناك في القاهرة تمثال لسليمان باشا في الميدان الذي بات يُعرف الآن بطلعت حرب باشا، ولقد بحثت عن تمثال سليمان باشا فقيل لي إنه في القلعة أو في المتحف الحربي، ولكنني أري وأطالب بأن يعاد نصب ذلك التمثال من جديد، بمناسبة مرور قرنين علي إنشاء المدرسة الحربية، في أحد ميادين القاهرة، أو المدن الجديدة، أو حدائقها مع مجموعة من التماثيل للقادة العسكريين المصريين التاريخيين خريجي المدرسة الحربية عبر العصور«. وانتقلت المدرسة الحربية بعد ذلك إلي عدد من المواقع في صعيد مصر »إسنا وأخميم النخيلة ثم الخانكة بالقرب من العاصمة القاهرة، ثم كان مستقرها في منطقتي العباسية وحدائق القبة، وفي عام 4091 نقلت إلي كوبري القبة حيث سميت المدرسة الثانوية الحربية، وفي عام 8091 انتقلت الكلية الحربية إلي مقرها الحالي بمصر الجديدة. ويذكر جيلي أن بعض دفعات ذلك المعهد العلمي العسكري التليد نقلت إلي السودان، كما نقلت دفعات البحرية إلي ليبيا إبان غارات العمق في حرب الاستنزاف، وتقدير القيادة باحتمالية استهداف العدو لهما. مائتا عام من المجد.. تخرج فيها مئات من الضباط وقادة المؤسسات العسكرية العربية والافريقية من الكلية الحربية لتظل وشيجة الارتباط بمصر حاضرة في نفوسهم أجمعين، حيث تعلموا وتفتحت مداركهم المهنية علي مفهوم أن قيمة أية مؤسسة عسكرية ليست استخداماً غاشماً للحديد والنار، ولكنها في نبل الهدف الذي تحدده لنفسها حين تستعمل السلاح أو تلتجئ إلي الاشتباك. ............... بيقين احتجت إلي كتابة هذه السطور اليوم مراكماً علي ما سطرت عبر سياق طويل، علني أذكر من يجب أن يتذكر بالموقع الذي يحتله الجيش في نفوس المصريين وتاريخهم، وعمد دولتهم أو ثورتهم. ولعلي كذلك أعلم من شاء أن يتعلم، أن هناك قيماً في الوجدان الشعبي لا يمكن تجاهلها، أو الالتفاف حولها، أو التضاغط معها لصالح أهداف سياسية أو مشاريع أفراد، فالناس مرة أخري وثقوا فيمن ذاب فيهم الفرد لصالح الكتلة، ولن يثقوا أبداً فيمن يحاول قياد الكتلة لصالح الفرد.