الذين خرجوا إلي ميدان التحرير والميادين الرئيسية في عواصم عدد من المحافظات يوم أمس الأول، ليسوا هم كل شعب مصر. لكن هل معني هذا أن الذين بقوا في منازلهم لا يشاركونهم نفس المشاعر، ولا يشتركون معهم في نفس المطالب؟! .. بالقطع لا! هناك شعور عام بالحيرة، بالاحباط، بالغضب، رغم أن ما تحقق في غضون 061 يوما من عمر ثورة 52 يناير، يفوق ما كان يراود أشد الحالمين تفاؤلا عشية قيام الثورة! حيرة نابعة من أن بعض ما يجري يغاير ما كان مأمولا، ويبدو أقرب إلي عملية ترميم منه إلي عملية إزالة أنقاض وإعادة بناء. وإحباط ناتج عن مظهر عدالة، تغدو معصوبة القدمين حين ينبغي أن تعجل وتنجز، وتصبح مفتوحة العينين حين ينبغي أن تعدل وتقسط. وغضب عارم إزاء تهاون لا يمكن إنكاره في ملاحقة قتلة الثوار، وتجاه استهانة لا يجب التغاضي عنها بمشاعر شعب مكلوم يريد القصاص لدماء أبنائه الشهداء.
ذاكرة الناس ليست ضعيفة، فهم لا ينسون كيف انتفضت النيابة العامة حين تشاجر محاميان مع وكيل نيابة وأمرت بإحالتهما فورا إلي محاكمة عاجلة، وكيف اقتصت المحكمة لكرامة القضاء وقضت بحبس المحاميين خمس سنوات من أول جلسة. لذا لا يمكن أن يقتنع الناس بأن »سلو« العدالة هو ركوب السلحفاة! الناس أيضا ليسوا سذجا ليصدقوا أن وزارة الداخلية بكل جبروتها -حتي في أوهن حالاتها-، ليست قادرة علي إلقاء القبض علي قاتل هارب من حكم بالإعدام لادانته باغتيال عشرات المتظاهرين، هو أمين الشرطة محمد السني الذي لم يترك صحيفة قومية أو حزبية أو خاصة إلا وتحدث إليها وهو يجلس علي مقهي يدخن الشيشة علي مرأي ومسمع من الجميع! لذا لا يمكن أن يؤمن الناس بأن القانون أصبح يسود الجميع دون استثناء أو تمييز. أين هي سيادة القانون، إذا كان قتلة الثوار في الإسماعيلية وفي غيرها أحرارا طلقاء، لم تطلهم يد ولم يصبهم اتهام؟! عن أي تطهير يتحدثون، إذا كان المتهمون بالقتل والتعذيب من رجال الشرطة يزاولون أعمالهم في مكاتبهم ويخرجون ألسنتهم للشعب وللثورة، وإذا كان رجال حبيب العادلي يتحكمون في هيئة الشرطة، ويديرون خطط تقويض الثورة ونشر الفوضي في البلاد؟! أين هو العدل، بل أين هي الرحمة بالأسر المكلومة في قرار محكمة جنايات السويس بإخلاء سبيل الضباط المتهمين بقتل أبناء مهد ثورة يناير!! هل يتحقق القصاص والردع بركل القضية إلي جلسة 41 سبتمبر المقبل، انتظارا لقذفها إلي ما بعد العطلة القضائية؟!
سبق لي أن كتبت في هذا المكان منذ شهور، وسبق لي أن تحدثت في عدة محافل، مطالبا بمحاكمة عسكرية لحبيب العادلي وزبانيته وأذنابه الذين قتلوا أكثر من ثمانمائة مصري وأصابوا قرابة ستة آلاف مواطن وتسببوا في ترويع عشرات الملايين وإطلاق سراح آلاف السجناء الخطرين في أحداث الانفلات الأمني، وكان دافعي إلي ذلك أن القضاء العسكري يختص بنظر هذه القضايا في ظل قانون الطوارئ. وسبق لي أن دعوت إلي إنشاء محاكم استثنائية لمحاسبة رموز النظام السابق علي جريمة إفساد الحياة السياسية، وكانت حجتي أنه ليس من المعقول أن نحاكم هؤلاء في قضايا من عينة الحصول علي قطعة أرض دون حق وبيعها بأضعاف سعرها، أو إهدار عدة ملايين من الجنيهات من أموال الدولة، ولا نحاسبهم علي جرائم إهدار ثروات البلاد وتزييف إرادة الشعب وتزوير الانتخابات والعدوان علي كرامة الوطن وأبنائه. لكن الرأي استقر علي إحالة المتهمين بالقتل والفساد إلي القضاء المدني والمحاكمات العادية، حرصا علي سمعة الثورة المصرية كثورة سلمية بيضاء، وابتغاء لتوفير أقصي درجات الحيدة والعدالة للمتهمين، وسعيا لاستعادة الأموال المنهوبة وفق اجراءات قضائية سليمة ،وبعد محاكمات لا تشوبها شائبة. كانت النتيجة عدالة بطيئة لا تحقق فلسفة الردع والقصاص، إنما تبعث علي شعور بالظلم في نفوس أبناء الشعب لاسيما أسر الشهداء، وتدفع إلي التساؤل: أين الثورة إذن؟!
علي كل حال.. الذين خرجوا أول أمس يتظاهرون وهم بمئات الآلاف والذين بقوا في منازلهم وهم بعشرات الملايين لم يطالبوا بمحاكمات استثنائية. إنما هم يريدون فقط محاكمات عاجلة وناجزة وعادلة وعلنية للقتلة والفاسدين، يطلبون تخصيص دوائر قضائية متفرغة لهذه القضايا دون غيرها لسرعة البت فيها وتحقيق القصاص العادل. ويدعون إلي تطهير مؤسسات الدولة وفي مقدمتها هيئة الشرطة. ولست أظن أن القوات المسلحة التي تبنت مطالب الشعب المشروعة منذ انطلاق ثورة 52 يناير، وتعهدت بحماية الثورة والدفاع عنها في مواجهة قوي الردة والفوضي، لم تستمع إلي صوت الشعب، ولم تستشعر نبض الجماهير، بل إنني أثق في أن المجلس العسكري سيبادر باتخاذ الاجراءات الكفيلة بتلبية مطالب الثورة التي لم تتحقق بعد، ويبقي علي السلطة القضائية أن تبادر هي الأخري بدعوة الجمعيات العمومية لمحاكم الاستئناف المختصة علي وجه السرعة لتشكيل دوائر خاصة متفرغة للنظر في قضايا قتل المتظاهرين وجرائم الفساد وسرعة الفصل فيها عبر محاكمات عادلة وعلنية يسمح فيها بتصوير وقائع الجلسات والمتهمين.
مادمت أتحدث عن القوات المسلحة، فلابد من التنويه بالوعي الكبير الذي اتسم به جموع المتظاهرين والقوي السياسية التي شاركت في جمعة »الثورة أولا«، حين تنبهوا لمحاولات عناصر مدفوعة تسعي للوقيعة بين الشعب وجيشه والاساءة للمجلس العسكري وقيادته العليا، وتطلق هتافات مغرضة لكي ترددها قلة غوغائية لا تزن ما تسمع قبل أن تكرره. أعلن المتظاهرون رفضهم لهذه الهتافات، إدراكا منهم بأن المشكلة ليست في المجلس العسكري، وانما الحل منتظر علي يديه، وإيمانا منهم بأن الدعوة إلي اسقاط المجلس العسكري هي في حقيقة الأمر دعوة لاسقاط الثورة، ومن ثم إسقاط الدولة المصرية، لتتحول البلاد إلي ساحة خلاء ترتع فيها الفوضي ويعربد الخراب.