الصورة الجميلة التي رسمتها في مقال سابق للعاصمة الايرانيةطهران ولمدينة إصفهان تعكس بصدق ما رأيته في المدينتين أثناء زيارة الوفد الشعبي المصري الي ايران.. هذه الصورة التي تبدو أقرب للمثالية،إضافة الي كل ما قاله ويقوله الايرانيون عن تقدمهم الصناعي والتكنولوجي والعسكري، والذي تؤكده تقارير محايدة، وإن كنتُ لم اشاهده بنفسي أثناء الزيارة، لا تعني أن كل شيء علي ما يرام في الجمهورية الاسلامية الإيرانية.. فالواضح أن المشهد السياسي معقد ومرتبك الي حد كبير.. ظهر ذلك من الاجراءات الامنية المفرطة والتي كادت تفسد الزيارة.. واكثر ما ضايق أعضاء الوفد عدم وجود برنامج محدد للزيارة يمكنهم من خلاله معرفة التحركات والمواعيد بصورة مسبقة.. وعندما أثرنا هذه المسألة مع مرافقينا الايرانيين لم نحصل علي إجابات مباشرة ولكن فهمنا بصورة غير مباشرة أن الهاجس الامني هو الحاكم لكل تحركاتنا وتحركاتهم.. وربما يلتمس الكثيرون بعض العذر للايرانيين في ذلك وخاصة أن أمريكا واسرائيل ومعظم القوي الغربية الكبري لا تفوت فرصة أو مناسبة لتأكيد عدائها للنظام الإيراني والجهر برغبتها في إسقاطه.. ومن نافلة القول إن هذه القوي عندما تظهر كل هذا العداء في العلن فإنها تفعل الكثير في السر لتنفيذ مخططاتها.. ولا يمكن لمنصف إنكار الدور الذي تلعبه هذه القوي في إذكاء الخلافات الداخلية والنعرات الطائفية والعرقية والمذهبية في إيران.. وأيضا محاولة الوقيعة بين إيران ودول العالم الاخري وخاصة جيرانها من دول الخليج العربية.. ومع تقديري لكل هذه الإعتبارات وغيرها فإنني أري أنها لا تبرر كل هذه الهواجس والقيود الامنية.. ولكن المأزق الاخطر للنظام الإيراني في رأيي هو الخلافات والانقسامات التي باتت أهم الظواهر التي يمكن رصدها دون جهد في المشهد السياسي الايراني.. هناك أولا الصراع بين الحكومة والمعارضة الداخلية بقيادة كل من حسين موسوي ومهدي كروبي اللذين خسرا الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس محمود أحمدي نجاد.. وقاد موسوي وكروبي احتجاجات شعبية دامية بعد الانتخابات التي قالا إنها مزورة.. وقد دفعا ثمن مواقفهما غاليا حيث تعرضا للتضييق والملاحقة والعزل السياسي.. وأخيرا الإقامة الجبرية.. وحتي الرئيس السابق محمد خاتمي، وهو رجل دين إصلاحي شهدت فترة حكمه انفتاحا ملموسا علي العالم الخارجي، لم ينج من التضييق والحصار لأنه يقود تيارا إصلاحيا من داخل المؤسسة وينتقد قمع المعارضة ومصادرة الحريات ، وأيضا لأنه دعم موسوي في الانتخابات ضد أحمدي نجاد مرشح المؤسسة الدينية الذي باركه المرشد الاعلي للثورة الاسلامية.. ولا شك أن هذا القمع للمعارضة الداخلية أساء كثيرا وبما لا يقاس الي صورة ايران في الخارج.. خلافات وهناك ثانيا الصراع الذي بدأ مكتوما ثم صار علنيا بين معسكر الرئيس الايراني وكبار مساعديه من ناحية.. ومعسكر المحافظين المتشددين الموالين للمرشد الاعلي آية الله علي خامنئي.. وتصاعد هذا الصراع في الآونة الاخيرة حتي صار بين أحمدي نجاد والمرشد شخصيا.. وتجلي ذلك في إلقاء القبض منذ نحو اسبوع علي واحد من أكبر حلفاء احمدي نجاد وهو وكيل وزارة الخارجية محمد شريف مالك زاده. وقالت وكالة مهر شبه الرسمية إن مالك زاده يواجه اتهامات بارتكاب مخالفات مالية.. وكان هذا الحادث هو الاخير في حملة منسقة يقودها أعضاء محافظون في مجلس الشوري الايراني (البرلمان) وأنصار خامنئي علي الرئيس ومعسكره.. وتقول صحيفة "نيويورك تايمز" الامريكية إن التوتر بين الرئيس والمرشد تحول في الايام الماضية من مجرد توتر لا يُسمح بالحديث عنه إلا خلف الابواب المغلقة الي حرب مفتوحة بين انصار الرئيس وأنصار المرشد.. واشارت الصحيفة الي أن أحمدي نجاد دأب علي وصف العلاقة بينه وبين خامنئي بأنها "علاقة أب بابنه".. ولكن مع إنقلاب العلاقة وتغير قلب المرشد علي تلميذه السابق، وفي إطار حرب التصريحات بين الجانبين، سخر مجتبي ذو النور ممثل المرشد الاعلي في الحرس الثوري الايراني من وصف العلاقة بأنها علاقة "أب بابنه" قائلا إن "العلاقة يجب أن تكون بين قائد وتابع".. وذهبت الصحيفة الي أن " مشكلة الجمهورية الاسلامية منذ تأسيسها عام 1979 تكمن في وجود رئيسين أحدهما يعتبر مقدسا، أي المرشد الاعلي والآخر رئيس منتخب".. وتضيف الصحيفة أن "الرئيس المقدس يملك معظم الصلاحيات الاستراتيجية وهو باق في السلطة ما بقي علي قيد الحياة.. بينما الرئيس المنتخب لا يمكنه البقاء في السلطة اكثر من فترتين مدتهما ثماني سنوات".. والمؤكد أن الرئيس الايراني هو الطرف الاضعف في هذا الصراع.. وأنه ربما يقضي العامين المتبقيين له في السلطة " كبطة عرجاء" بلا صلاحيات تذكر.. وقد يضع ذلك الصراع غير المتكافيء يدنا علي أهم نقاط ضعف التجربة السياسية الايرانية في عصر ما بعد الشاه، بل ربما يحيلنا ذلك الي أبرز إشكاليات نظم الحكم ذات المرجعية الدينية وضرورة فصل الدين عن السياسة في الدولة المدنية الحديثة.. ف"المقدس" الالهي يُلغي "البشري" الناسوتي حتي ولو كان منتخبا بإرادة الشعب الحرة عبر آلية ديمقراطية نزيهة.. والمقدس لا يكتفي بعدم الإعتراف بالرأي الآخر عندما لا يتفق معه، ولكن يمكنه تكفيره وإلغاءه.. بل إن الديكتاتورية الدينية أشد خطرا من الديكتاتورية المدنية (غير الدينية) التي يمارسها سياسيون لا يرتدون مسوح الدين.. هناك إذا" اشكالية جوهرية في بنية النظام السياسي الايراني لان الولي الفقيه له الكلمة العليا والنهائية التي ربما تُلغي خيار الديمقراطية في لحظة القرار الاستراتيجي.. صلاحيات مطلقة وإذا عرفنا الصلاحيات المطلقة أو " الخارقة"، كما يسميها البعض، للمرشد الاعلي طبقا لنص الدستور الايراني سندرك أن الهامش الذي تتحرك فيه الشخصيات والمؤسسات المنتخبة شعبيا ضيق للغاية.. فالمرشد يحدد السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام، ويشرف علي حسن إجراء السياسات العامة للنظام، ويصدر الأمر بالاستفتاء العام.، ويتولي القيادة العامة للقوات المسلحة، وإعلان الحرب والسلام والنفير العام، وكذلك نصب وعزل كبار المسئولين.. والي جانب ذلك هناك التحديات الداخلية المتمثلة في اقليات تقول إنها مضطهدة وأصحاب مذاهب وعرقيات يطالبون بحقوق المواطنة المتساوية.. ومن هؤلاء الاكراد وعرب الاهواز والسنة بشكل عام.. هذا فضلا عن التحديات الخارجية المتمثلة في الحصار الاقتصادي والعزلة السياسية.. وشبهات التدخل في الشئون الداخلية لدول صغيرة مجاورة، ناهيك عن إحتلال ثلاث جزر تابعة لدولة الامارات في الخليج العربي.. الخلاصة أن ايران بلد كبير ومهم لكنه مكبل بتحديات داخلية وخارجية صعبة وكثيرة.. وإذا كانت ايران قد نجحت حتي الآن في مواجهة التحديات الخارجية واعتمدت علي نفسها لتحقق نهضة زراعية وصناعية وعلمية وتكنولوجية ملموسةكما تقول، إلا أن التحديات الاخطر هي تحديات الداخل.. ولعلي لا ابالغ إذا قلتُ إن مشكلة الديمقراطية والحريات تهدد مشروع النهضة الايراني الحالي.. وإذا قارنا التجربة الايرانية في التنمية المستقلة بتجربة مصر في عصر عبد الناصر أو العراق في عصر صدام حسين (وأنا هنا اتحدث عن التقدم الصناعي والنمو الاقتصادي تحديدا) سنجد أن هناك تشابها بصورة ما.. وهناك اتفاق علي أن غياب الحريات والديمقراطية ادي الي انتكاسة التجربة المصرية وفشل التجربة العراقية.. واخشي القول إن الإصلاح السياسي والديمقراطي والإنفتاح علي المعارضة الوطنية في الداخل والتصالح مع الذات هو السبيل الوحيد لضمان النجاح لتجربة الايرانية.. وفي كل الاحوال فإن المؤكد أن إقامة علاقات طبيعية وكاملة بين القاهرةوطهران سيكون في صالح البلدين وفي صالح المنطقة العربية وأري أنه لا يوجد أي مبرر لقطيعة طالت اكثر مما يجب.