لم يقصد الشاعر الراحل الكبير صلاح عبد الصبور حين كتب »مسافر ليل» أن يشاهد مسرحيته داخل قطار، رغم أحداثها التي تدور داخله، فلم يكن الواقع ضمن تصوره، ولكنه العبث الذي عشقه بعد أن اكتشفه نهاية الستينيات علي مسرح الجيب بعد رؤيته لمسرحية الكراسي لأونيسكو، وتصور أن هذا الاتجاه إجحاف للعقل، لأنه يستلهم روحه، ولكنه خارج عن المنطق، وظل شاعرنا يطرح مفاهيم غامضة ولا يبين لنا كيف يستلهم روح العقل بكسره لقواعده، خاصة وأن العبث لا يطرح سوي نتائج الأزمات وآثار الدمار الإنساني دون مسبباته. مسرح العبث يغوص في رؤي العقل الباطن ليجسدها علي المسرح، وتكمن محاولات هذا المسرح في التخلص من السيطرة العقلية والواقع بتفاصيله. وحين أقدم محمود فؤاد صدقي علي إخراج »مسافر ليل»، ابتعد عن الأفكار التقليدية لمسرح العبث وقدمه واقعا داخل مبني قطار، وهذا ما لم يكن يتخيله أي عبثي ولا حتي عبد الصبور نفسه. في الواقع كانت رؤيته إضافة جديدة، إنه القطار بتفاصيله الواقعية من الخارج، ومن الداخل حيث مقاعد الركاب من الجانبين والتي تتوجه أنظارهم إلي مساحة الوسط، حيث الحدث الذي يدور أحيانا وسط المقاعد، وهو تكنيك لا علاقة له بالعبث بقدر علاقته بأشكال أخري كالواقعي والملحمي والتسجيلي والسياسي، وكل هذا في النهاية رؤية إبداعية أضافت سحرا علي العرض، شاركت في الوقت نفسه في توصيل الرؤية العبثية العدمية. المسرحية تدور في عربة قطار، وتتكون من فصل واحد، ويؤديها ثلاث شخصيات، هم عامل التذاكر والراوي والراكب، يبدأ العرض والراوي يقف في ركن من العربة، كما يجلس الراكب علي مقعده، وهنا يظهر عامل التذاكر متسائلا عمن يصرخ باسمه، ثم يدعي أنه الإسكندر الذي روض العالم، ويقسم أنه سيروض الراكب كالمهر الجامح، فيستخرج من جيبه سوطا وغدارة وأنبوبة سم، وحبلاً مات به أعز أصحابه شنقا، ثم يغير اسمه إلي زهوان، ويصاب الراكب بالرعب، وهنا يستخرج العامل نجمة مأمور أمريكي يعلقها علي صدره ليبدأ محاكمة الراكب متهما إياه بقتل الإله (مجازا) أي سرق بطاقته الشخصية، ولذا لابد من قتله، فيقتل العامل الراكب لكونه رجلاً طيباً، ويتضح أن القاتل هو العامل نفسه. تنتهي المسرحية حين يسأل الراوي الجمهور عما يمكن أن يفعله، فهو أعزل مثلهم بينما العامل في يده خنجر، وصلاح عبد الصبور يدين هنا العامل الذي يمثل السلطة المستبدة عبر التاريخ، والراكب الذي يمثل الطبقات المقهورة، والراوي الذي يمثل خذلان المثقفين، وبالإضافة إلي رؤية المخرج الإبداعية في توصيل هذه العدمية إلي المتفرج، اختار لدور عامل التذاكر علاء قوقة الذي استخدم كل أدواته الفنية في توصيل معاني الاستبداد باسترجاع رموز القهر عبر التاريخ، وباستخدام طبقة صوتية مستعارة في تشخيص رموز القهر، بطريقة ميلودرامية مقصودة ثم الانتقال إلي أخري هزلية، وقد جمع بينهما ببراعة شديدة، وقد كان صفوت الغندور متمكنا من أدواته الفنية في دور الراوي ليؤكد علي خيانة النخبة للبسطاء، واستطاع مصطفي حمزة أن يشخص كل مفردات الضعف والمهانة التي تسمح للطغاة بممارسة دورهم في قهر الناس، قطار »مسافر ليل » يشكل ضوءاً مبهجا لعمل فني يستحق المشاهدة وسط فراغ المشهد المسرحي المتردي.