إن النظر إلى مسرحية «مسافر ليل» على أنها نوع من التمثيل الكنائى أو «الأليوريا» هو المدخل الطبيعى للحديث عن بنيتها وتقنياتها على السواء، وأول ما ينبغى أن نلاحظه فى هذا السياق هو دلالات الأسماء؛ فاسم البطل أو «الراكب» المسكين من حيث الدلالة هو نقيض البطل الآخر «عامل التذاكر» الذى ينتمى إلى دنيا المستبدين والطغاة الذين لا تعنيهم أرواح الأبرياء من المسئولين عنهم فى مقابل أطماعهم الشخصية إلى المجد، ولذلك فإن ملامح البطل الأول أو «الراكب» لا تقتصر على التجريد فحسب، ولكن فى داخل هذا التجريد تشى بالمسكنة والضعف الداخلى وقلة الحيلة والخضوع السريع لأى نوع من أنواع القمع كأنها صورة أخرى لكل من جبلوا على أن يقولوا (نعم) فى قصيدة القناع التى كتبها أمل دنقل بعنوان: «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» فالراكب ليس من طراز سبارتاكوس أو حتى من طراز «الحلاج» فى مسرحية صلاح عبد الصبور الأولي، وإنما هو عبد تعود على العبودية وآثرها وتربى على لوازم العبودية هذه من أخلاق تحض على طاعة الحاكم وإن جار، شأنه فى ذلك شأن الحكام الذين لهم على العامة حق الطاعة والولاء. ولهذا فالدور الذى يؤديه الجلاد والضحية فى مسرحية صلاح عبد الصبور هو دور التمثيل بالكناية عن عقلية الخنوع والإذعان التى تجعل صاحبها ميتا قبل الموت، ومهزوما قبل الهزيمة، وعبدا قبل أن يرفع عليه سيده سوط العبودية، فهو مهزوم من الداخل وواحد من الأحياء الموتى الذين ماتوا قبل الموت، فهو يقبل الظلم ويرثه عن أجداده ليورثه لأحفاده كما لو كان هو إنسان العالم الذى يعيش على التأويل الشائه للآية: «.... أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنكُمْ......» (سورة النساء:الآية 59) فأولو الأمر هم الحكام أو بمعنى أدق هم الحاكم الواحد الأحد الذى لا شريك له فى الحكم ولا أحد سواه يعرف مصالح الناس. والنهاية التى ينتهى إليها مصير الأوطان التى تنبنى على ثنائية القمع والمقموع هى النهاية المأساوية التى كانت كارثة العام السابع والستين دالة عليها، والتى ينبغى أن نظل على ذكر معناها ومغزاها على هذا النحو الذى أرادت المسرحية توصيله فى نوع من التمثيل الكنائى الذى هو تعليمى بمعنى من المعاني. ويتحول التضاد الكلى الذى تنبنى عليه المسرحية إلى تضاد جزئى مبثوث فى الأسطر، ولذلك نراه عندما يقول الراوي: «فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ/ لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء/ والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك/ ليكونوا متنزه أقدام العظماء». هذا هو درس التاريخ الذى يكشف عن تضاد جزئى يتجاوب مع التضاد الكلى الذى ينبنى عليه التجريد فى المسرحية، أو الذى يتخلل كل المسرحية. وإذا تركنا الثنائية الضدية التى تصل بين البطل والبطل النقيض، فمن السهل أن نلاحظ انتشار الثنائيات الضدية على امتداد المسرحية فى الأسطر التى تتكون منها. ولا يلفت الانتباه بعد التضاد فى هذه المسرحية سوى السخرية، فقد أراد صلاح عبد الصبور أن يسخر من المحكومين الذين يرضون بالظلم والاستبداد، ومن الحاكمين الذين لا يكفون عن الاستبداد والقمع، وتتكرر السخرية فى هذه المسرحية كأنها نوع من «المسخرة». أعنى أن صلاح عبد الصبور يريد أن يتمسخر فى هذه المسرحية من المظلومين والظلمة على السواء، أو المقموعين والقامعين معا. فالمسرحية إدانة للطرفين وسخرية منهما، نراها على مستوى الإجمال فى النص كله، كما نراها على مستوى التفصيل فى الحوار، خصوصا حين نسمع «عامل التذاكر» وهو يقول: «علمنى سنى أن يتقدم عقلى سخطي/ لكنى لا أسمح إطلاقا أن يتقدم عقلى خطوات القانون». فالقانون الذى يتحدث عنه هو قانون الظلم، القانون الذى يقول له: «كُل لحم أخيك وتحول إلى وحش من وحوش الغاب». وعندما يتحدث الراوى عن التاريخ - قائلا: «وأشهى ما فى الأوراق هو التاريخ/ نأكله كل زمان وزمان/ ثم نعيد كتابته فى أوراق أخري/ كى نأكلها فيما بعد». فإن السخرية هنا مما يقوم به الحكام المستبدون من تزييف التاريخ وتحويله إلى تاريخ يهدف إلى تحقيق مصالحهم، وتحويله إلى تاريخ للحكام القامعين. أما الشعب المسكين فمسكوت عنه، فالتاريخ تاريخ الحكام العظماء وليس تاريخ الشعوب المقهورة، وتزييف التاريخ حرفة يتقنها مؤرخو السلطان المستبد عبر كل العصور. وعندما يقول الراوي: «العدل بلا مظهر/ كالمرأة دون طلاء/ كالمسرح - مسرحنا هذا- دون ستائر». فإن السخرية تمتد من فهم المستبدين للعدل إلى السخرية من المسرح الذى تدور عليه الأحداث نفسها، فهو مسرح بلا ستائر كالمرأة دون تزيين، لأنه مسرح يريد أن يصل إلى الحق والحقيقة من أقصر الطرق وأوضحها على السواء. وعندما يُخير «عشرى السترة» الراكب المسكين أن يختار أداة من بين أدوات قتله، فإنه يمارس السادية الساخرة، المرة مرارة التعذيب الذى يلقى بالراكب فى أتونه كى يفاضل بين أن يواجه القتل بالسم أو لسوط أو الخنجر، وحتى عندما يقتله فإنه يصفه بأنه أنبل خلق الله، ومع ذلك يكشف له عن السبب الخفى فى قتله، فهو يقتله لا لشيء إلا لكى يخفى جريمة ارتكبها هو، ولم يرتكبها الراكب المسكين. وقبل أن يقتل «عشرى السترة» الراكب المسكين، فإنه يحدثه عن وحدته ووطأة الحكم عليه، فيتحدث إليه عن وحدته فى قصره دون أن يدرى الناس أنه يحمل العبء الأكبر، والفزع الأكبر إذا حدثت واقعة أو كارثة، هو مسئول عنها أمام الناس وليس الحاكم الذى يدفعه عدله (الزائف طبعا) إلى أن يخرج من قصره كى يتفقد أحوال الخلق، ويستقبل زوار البلد الذين يتحمل عبء حضورهم، عائدا إلى وحدته فى النهاية، مشيرا إلى أصحابه الذين يبتسمون له، ولكن قلوبهم السوداء تبحث عن خلاص منه، فلا يملك سوى أن يبكى أمام الراكب المسكين الذى يقول له: «لا تحزن لا يا مولاي/ دمعك أغلى من أن تسفحه/ إشفاقا منك على أهل السوء». فلم يكن الراكب المسكين يعرف أن عامل التذاكر الذى يختبئ فى إهابه «عشرى السترة» سوف يغرس خنجره فى قلبه بعد قليل. وهناك التضمين الذى يجعل من أسطر المسرحية شبكة من الاقتباسات والإشارات التى تشير إلى الإسكندر الأكبر والحجاج الثقفى وجوبلز وهتلر، وإلى أبيات الشعر التى يشنف بها الراكب مسامع «عشرى السترة» من أشعار المتنبى الذى يصفه «عشرى السترة» بأنه شاعر سمج مأفون، خالطا بينه وبين من يدعوه «شعبان العائم»، وهو صحفى فى حاشيته لا يصلح إلا فى الهزار الأجوف كى يتسلى به. وتأتى بعد التضمين تقنيات التصوير الشعرى فى هذه المسرحية الشعرية التى تتكيء على التشبيه أكثر من الاستعارة، وهذا أمر طبيعى فالتشبيه يقترن بالحالات العقلية التى يراد بها التوضيح أو الإبانة على عكس الاستعارة الموجودة فى أسطر المسرحية، ولكن بما لا يصل كميا إلى مستوى التشبيه. وعموما فهى موجزة فى حضورها، لا تمتد كثيرا ولا تتحول فى امتدادها إلى استعارات مكنية أو مرشحة، وإنما هى استعارات موجزة حتى لا يستغرق فيها القارئ أو الممثل، فيوقف تدافع حركة المسرحية التى تمضى فى إيقاع متسارع نسبيا، مشركة القارئ معها فى تأمل المعضلة التى تطرحها، ولهذا تعتمد على تشبيهات من قبيل: - الراكب يتأرجح كالميزان المهتز - قسما، سأروضك كما روضت المهر الجامح - الراكب محموم بالرعب، يتغير وجهه مثل إشارة ضوء وهناك العربة التى يجلس فيها الراكب، وهى عربة كغيرها من العربات التى لا تحوى سوى حفنة ركاب، ينتشرون كأجولة ملقاة فى مخزن قصر مهجور. وحين يتسلط الضوء على الراكب الوحيد، نقرأ فى وصف العربة: تبدو مظلمة، باردة، خافتة الأنفاس/ كبطن الحوت الميت. أما عن الاستعارات، فنراها حيت تقعقع الأنوار المطفأة على رصيف البلدة، والتاريخ الذى يتحول إلى استعارة مكنية كالأوراق التى تؤكل فى كل زمان، ثم يعاد كتابته فى أوراق أخري، كما نراها فى «الود» الذى يموت ويهون ولم تعقد عقدته بعد، أو فى صوت «عامل التذاكر» وهو يرفع يده بالتحية إلى «عشرى السترة» - قائلا: ها أنا ذاك يا عشرى السترة...أترقرق رحمة؟. ولا ننسى أن المسرحية كلها تنبنى على مفارقات متكررة، والمفارقة تعنى الجمع بين عناصر تبدو متشابهة فى الظاهر، ولكنها متضادة فى واقع الأمر. ولا ننسى غير ذلك كله الكنايات المتناثرة، بل يمكن أن تعد المسرحية كلها كناية كبيرة أو تمثيلا كنائيا لمعنى غياب العدل وانتشار الظلم بواسطة استبداد الحكام وانفرادهم بالحكم. ولا يبقى سوى الوزن والإيقاع، فالملاحظة الأولى هى أنه إيقاع سريع يعتمد على تفعيلة متدارك (فاعلن) ولكن التفعيلة تمر بأشكال الزحاف والعلل التى تجعلها تتدفق، مبطئة أحيانا، متسارعة فى أحيانا أخرى كى تجسد التدفق الدرامى بأشكال صراعاتها الموجودة فى «مسافر ليل». ويبدو أن هذه التفعيلة اختارها صلاح عبد الصبور لكى تتوازي- إيقاعيا- مع صوت عجلات القطار على القضبان، وهو الصوت الذى يشير كلمة تكرار الكاتب للمقطع: تك تك تك تك، وهو جالس وحده فى العربة من قبل أن تبدأ الأحداث. ويساوى المقطع (تك) سببا خفيفا يتكون من متحرك وساكن، وهى الصيغة العروضية التى يتكون من تكرارها أغلب الصيغ التفعيلية فى النص. وهى الصيغ التى تتراوح ما بين «فعلن» بالتحريك أو التسكين للعين و«فاعلن وفاعلُ»، وهى أربع صيغ تتكون منها صيغ التفعيلات التى تتناغم والحروف الصائتة وأحرف المد واللين كى يظهر الفرق فى النهاية بين إيقاع سؤال ملهوف سريع الوقع مثل: (ماذا أفعل؟!) وسطر آخر يستطيل ليغدو خمس تفعيلات، مثل: (آه كيف سأحمل جثة هذا الرجل الممتلئة؟!). وبالمراوحة بين نوعية الحروف ونوعية الأسباب والأوتاد، يتشكل الإيقاع السريع للمسرحية التى تمضى فى لغة سهلة مضادة لما نسميه «المعجم الشعرى المحلق»، فكلمات المسرحية هى كلمات من الحياة اليومية لا تختلف عنها إلا كى تكون موظفة فى مسرحية شعرية تؤكد هبوط المسرح الشعرى من عليائه ليغدو مسرحا مكتوبا لكل الناس بلغة يفهمها كل الناس. وهو مسرح بقدر ما يعتمد على «الكوميديا السوداء» فإنه يمزج الكوميديا باللامعقول، وذلك بالمعنى الذى يجعله يلجأ إلى تحويل الشخصيات على نحو لا معقول، فيجعل من سترة «عامل التذاكر» سترة ثلاثية أو رباعية أو عشرية فى نوع من التحولات غير المعقولة من منظور المنطق الصارم، بل يضيف إلى هذه التحولات أن يظهر عامل التذاكر على هيئة مأمور أمريكى يضع مسدسه أمامه فى أثناء التحقيق، الأمر الذى يفزع منه السائق. والطريف واللافت للانتباه أن الراكب المسكين هو الوحيد الذى لا يتحول أو يتخذ أشكالا مغايرة، فهو عبده بن عبد الله بن عابد، والد عباد وعبدون. أما «عامل التذاكر» فى أكثر تحولاته اللامعقولة التى تدخل مسرحية صلاح عبد الصبور فى دائرة المسرح اللامعقول، ولكن ليس بمعنى أنها مسرحية مجافية للعقل، وإنما بمعنى أنها مجافية للقوالب العقلية المسماة «المنطق الأرسطي»، ولذلك فهى تنتسب إلى مسرح يخضع للعقل العام الذى يقبل تقلبات العقل المنطقي، وحتى كلمة العبث- فى هذا السياق- فإنها تبدو كلمة غير دالة على ما يريده صلاح عبد الصبور الذى يقول فى آخر تذييله للمسرحية: زمن يستطيع أن يعبث فى هذا العصر الذى نعيش فيه، حتى ولو كان ذا نفس عابثة، لنميزه إذن باختلافه عن سبيل منطق العقل إلى سبيل روح العقل وهى جمل تؤكد المنحى العقلى لإبداع صلاح عبد الصبور الذى كان يريد أن يرى النظام فى الفوضى لأنه يرى الجمال فى النظام. لمزيد من مقالات ◀ جابر عصفور