ليس من السهل ان يفهم المرء بعمق خلفيات وأبعاد ومرامي السياسة الأمريكية، وكذلك الأنظمة والتقاليد والأعراف والرموز والشخصيات وكل ما يشكل نمط الحياة في الولاياتالمتحدة وما تحتوي عليه من محركات ومصالح وتيارات وأسرار وخفايا.. وما يؤثر فيها من عناصر تاريخية وسيكولوجية وتراثية. ولكن الأعوام التسعة التي قضتها الزميلة الكاتبة الموهوبة »مها عبدالفتاح« في الولاياتالمتحدة لم تكن عبثا، والواضح أنها كرست كل طاقتها ووقتها خلال تلك الأعوام لمتابعة ورصد وتسجيل كل صغيرة وكبيرة من أحوال تلك الدولة العظمي بكل جوانبها والتوغل في أعماق الدهاليز السياسية والكواليس التي تصنع فيها القرارات.. والمؤامرات. وبالنسبة لكاتب هذه السطور فان كتاب »أمريكا نعم.. أمريكا لا« الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب من تأليف مها عبدالفتاح، يعد ثورة فكرية وسياسية ومعلوماتية.. قيمتها تفوق الخيال، لأنني لم تتح لي في أي يوم من الأيام زيارة أمريكا »العجيبة«. الكتاب أشبه بموسوعة، ولكن اختيار يقع علي فترة الاعداد في الولاياتالمتحدة للحرب الأمريكية الأولي ضد العراق بعد غزو صدام حسين للكويت في أغسطس عام 0991. المؤلفة تذكرنا بمواقف اصبحت بالنسبة للبعض في زوايا النسيان رغم أن تذكرها ضروري لفهم ما يجري الآن. في تلك الفترة طرحت القيادة العراقية فكرة الاستعداد للخروج من الكويت في إطار حل المشكلات الاقليمية الأخري، وعلي رأسها المشكلة الفلسطينية، وبعبارة أخري فإن المبادرة العراقية كانت تتلخص في الانسحاب العراقي من الكويت علي ان يطبق هذا المبدأ - الانسحاب- علي جميع الأراضي المحتلة في المنطقة. ماذا عن رد الفعل الأمريكي - الإسرائيلي لهذه المبادرة؟ اعلن السفير الاسرائيلي في واشنطن ان اسرائيل لاتحتل أراضي، وانما »في حوزتها« أراض تحت يدها!! وفي اليوم التالي، أعلن نائب في الكونجرس الأمريكي من اصدقاء اسرائيل المقربين - كان في زيارة لاسرائيل في ذلك الوقت- ويدعي »سولارز«، في حوار مع قناة تليفزيونية امريكية بالقمر الصناعي، ان المبادرة العراقية »خلط للأمور«.. فاسرائيل لا تحتل أراضي! واستخدم نفس تعبيرات السفير الاسرائيلي! بالاضافة إلي ذلك، فقد صرح جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، بان سياسة الولاياتالمتحدة، علي مدي السنوات، هي ان القدس يجب ان تظل »موحدة« وعدم العودة إلي تقسيمها مرة أخري! وهو نفس ما تقوله إسرائيل حتي الآن! وتركز مها عبدالفتاح في كتابها الضوء علي حقيقة الموقف الأمريكي تقول: ان اخشي ما يخشونه في واشنطن ان »تطق« في رأس الرئيس العراقي ويسحب قواته من الكويت في حالة فشله في الابقاء عليها هناك! إذن، فان القضية الأهم بالنسبة للأمريكيين ليست الانسحاب من الكويت و إنما.. تدمير العراق. وحتي »زبجنيو بريجنسكي« مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الاسبق كارتر، كان يخشي خلق انطباع بان يكون هدف الولاياتالمتحدة ليس ردع العراق عن احتمال شن هجوم علي السعودية، وإنما ان يتحول هذا الهدف إلي تدمير العراق نفسه.. وصولا إلي رئيسه صدام حسين. ويعرض لنا الكتاب نماذج من صيحات كانت تتردد في واشنطن تطالب ب»قطع الرقبة«، أي: إما ان يبادر صدام بتصفية قوته بنفسه- وهذا غير وارد- أو تستخدم أمريكا القوة العسكرية ضده بعد انسحابه من الكويت للاجهاز علي آلته الحربية.. ويصل الأمر إلي حد ان الجنرال قائد سلاح الطيران الأمريكي يعلن ان قائمة الاهداف التي يجري قصفها يوميا في العراق - قبل بدء الحرب البرية- يجب ان تشمل، في رأيه، »كل ما هو فريد وموضع اعتزاز ثقافي في العراق وذو قيمة لا تعوض«! »أي انها حرب ضد التراث والحضارة والتاريخ«. وتضع الكاتبة يدها علي الدوافع الحقيقية للحرب.. تقول: بعد ضرب العراق وانتهاء حرب الخليج في 1991 وتجريد العراق من جميع أسلحته.. خرجت كلمة الحق من شفتي الرئيس الأمريكي جورج بوش »الأب« وهو يواجه الناخبين الأمريكيين في حملة انتخابات الرئاسة، لم يلجأ الرجل إلي الشعارات والكلمات الرنانة ولم يتمسح في المبادئ أو في الشرعية وغيرها من الكلمات التي خدعت البعض منا وصدقها، وانما كان لزاما عليه ان يفصح عن الحقيقة والصدق أمام من لا يرحم »الناخبين«، مقال لمواطنيه بالحرف الواحد: »لو لم أفعل مافعلت لكنتم تدفعون الآن عشرين دولارا- بدلا من خمسة- مقابل كل جالون بنزين«! إذن المسألة.. هي المصالح ولاشئ غير المصالح، وقد عرف العم بوشي كيف يوظف نقطة الضعف لدي الدول البترولية واحساسها الدائم بالخطر سواء من العراق أو من إيران، علي حد تعبير الكاتبة.. لتحقيق اهداف استراتيجية أمريكية محضة. وتلخص مها عبدالفتاح مشكلة صدام حسين التي جلبت الكوارث علي بلاده بأنه بدأ يضع حساباته، في الفترة الأخيرة السابقة علي الحرب، علي أساس أن امريكا لا تريد الحرب، وان بوش لن يجازف بها ضد رغبة الكونجرس، وهو تقدير خاطئ تماما ويدل علي قصر النظر والغباء السياسي. وهنا يبدو بعد نظر الكاتبة التي كانت تطلق نداءاتها من واشنطن - في ذلك الوقت- بإنه لابد من فهم ضرورات انسحاب الرئيس العراقي من الكويت »الآن« حفاظا علي التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل بعد ان ظهر بوضوح ان واشنطن تريد تحطيم العراق والاجهاز علي قوته العسكرية.. الأمر الذي لن يخدم سوي اسرائيل ويحقق لها ما تريد.. وإذا كانت الكاتبة قد تساءلت عما سيكون عليه موقف أمريكا أمام اصدقائها في العالم العربي ودول العالم بعد ان اقامت الدنيا وأقعدتها لمعاقبة صدام حسين علي غزوه للكويت بينما تساند اسرائيل التي تحتل أراضي عربية طوال 34 سنة وتحمي هذا الاحتلال بالفيتو الأمريكي.. فإن الاجابات علي هذا التساؤل كانت قاطعة وحاسمة في وقت لاحق، عندما تنكر الأمريكيون لوعودهم للعرب بتحقيق ما اسموه ب»السلام التاريخي« في الشرق الأوسط عقب انتهاء الحرب، وقاموا- هم أنفسهم- باحتلال دولة عربية أخري هي.. العراق، علاوة علي دول أخري! وأخطر ما يتناوله كتاب مها عبدالفتاح حول طريقة تعامل رؤساء أمريكا مع العالم هو ما حدث عندما ترددت أنباء عن استعدادات لمحاكمة الرئيس كلينتون في فضيحة المتدربة »مونيكا لوينسكي«.. فبينما كانت الأخيرة تؤدي شهادتها أمام لجنة المحلفين الكبري، اصدر كلينتون أوامره بشن ضربة جوية ضد بغداد، واخذت الصواريخ تنهمر علي العاصمة العراقية وسط دوي الانفجارات، كما أصدر أوامره بضرب معسكرات في افغانستان ومصنع لانتاج الأدوية قرب العاصمة السودانية الخرطوم »تبين عدم صحة الأسباب التي أدت إلي ضربة«.. وتساءل الجميع عن مغزي توقيت هذه الضربات. وها هو الضمير الإنساني والمهني يملي علي مها عبدالفتاح ان تطرح - بدورها- السؤال الاستنكاري: هل يجوز التلاعب سياسيا بأرواح الشعب والجنود للتغطية علي فضائح الرؤساء الجنسية؟ وتنقل إلينا تساؤل أحد نواب الكونجرس: كم جنديا أمريكيا وطفلا عراقيا برئيا سيموتون من أجل ان نخفي هذا الرئيس نفسه عن العدالة؟ هنا تتذكر الكاتبة الفيلم الذي اشتهر ب»ذيل الكلب«، الذي يختلق فيه مساعدو الرئيس الأمريكي في الفيلم.. احداث حرب وهمية يلهون بها الرأي العام ويصرفونه عن متابعة فضيحة أخلاقية لرئيسهم. قارئ الكتاب يشعر بان كل كلمة فيه تنبض بالصدق وتلوذ بالموضوعية وتعبر عن الأمانة الفكرية وعن الروح الوطنية.