نتائج مثمرة لقمة نيقوسيا الثلاثية.. وارتياح واسع لتعاظم الدور المصري البرلمان القبرصي يكسر تقاليده.. ورئيسه يتبني دعوة السيسي وسط إقليم مضطرب، هو شرق البحر المتوسط، تعصف به أعاصير عاتية منذ مطلع هذا العقد، ضربت بلدانه في تماسكها ووحدتها، بل في مقومات وجودها، تبدو مصر واليونان وقبرص الناجون الثلاثة من مصير محتوم في عواصف السياسة وأنواء الاقتصاد. عام 2013، كان ذروة الخطر لهذه الدول. اليونان علي حافة إفلاس يقوض اقتصادها واستقرارها الاجتماعي. قبرص تصارع الغرق في أزمة مالية حادة، تهدد بانهيار مصارفها. مصر تواجه شبح حرب أهلية يقتادها إليها نظام الإخوان الذي تسلط علي الشعب، معادياً كل قواه السياسية ومؤسساته، وساعياً لتغيير هويته. في العام التالي.. انطلقت آلية التعاون الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان، وعقدت اجتماعها الأول علي مستوي القمة بالقاهرة، كانت اليونان تلعق جراحها الاقتصادية بسبب أزمة الديون، وكانت قبرص تكاد تطفو من أزمتها، وكانت مصر تجاهد لتثبيت دعائم الدولة بعد أن نجت من مخطط إسقاطها، في ظل نظام جديد ورئيس وطني. يومئذ.. بدا للبعض أنه تجمع للضعفاء. واليوم تغيرت النظرة، وظهر هذا التجمع كنموذج للتعاون في منطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط، بين دول ناهضة تعافت أو أوشكت، وأخذت في الانطلاق، بعيداً عن مصائر تسونامي النزاعات والانهيار السياسي والاقتصادي، الذي اجتاح الساحل الشرقي للمتوسط، وقلب ساحله الجنوبي. • بعد خمسة لقاءات قمة عقدتها هذه الآلية منذ نوفمبر 2014، يتكشف بوضوح بُعد النظر الاستراتيجي للرئيس السيسي الذي أطلق آلية التعاون الثلاثي، ورعاها، وحرص علي استمرار انعقادها شريكاه الرئيس القبرصي نيكوس انيستاسيادس ورئيس الوزراء اليوناني الكسيس تسيبراس. كانت الآلية هي قفزة سياسية، إلي ما وراء خطوط مرسومة، ونقلة استراتيجية لمسار العلاقات في الإقليم، بين دول ثلاث تربطها أواصر تاريخ وحضارتين عريقتين، وتجمعها تحديات حاضر مشتركة ورؤي متوافقة لسبل مجابهتها، ويظللها رغبة في بناء مستقبل أرحب من التعاون المشترك لصالح شعوبها. التحالف ليس هو التوصيف الدقيق للآلية الثلاثية، فالغرض منها ليس موجها ضد طرف بعينه أو غيره في الجوار الإقليمي، إنما الأقرب هو شراكة استراتيجية، تقوم علي التفاهم السياسي والتعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي والأمني والدفاعي، تستهدف صالح البلدان والشعوب الثلاثة، وتقديم نموذج مغاير لما يراد لهذه المنطقة والإقليم. عندما وقف قادة مصر واليونان وقبرص متشابكي الأيدي، في ختام القمة الخامسة لآلية التعاون الثلاثي أمس الأول في نيقوسيا، لم يكن المشهد من أجل التقاط صورة تتصدر صحف البلدان الثلاثة في اليوم التالي، إنما كان تجسيداً لعلاقة شراكة تزداد رسوخاً، علي مستوي الدول الثلاث، وأيضا القادة الثلاثة الذين توطدت بينهم مودة شخصية، تجعل كلا منهم يخاطب الآخر باسمه الأول، مقروناً بوصف الصديق. هذا المشهد رأيناه لأول مرة في القاهرة منذ ثلاث سنوات، وتكرر في الاجتماع الثاني في قبرص في إبريل 2015، ثم في القمة الثالثة بأثينا في نوفمبر من نفس العام، ثم في اللقاء الرابع بالقاهرة في أكتوبر من العام الماضي. في قمة نيقوسيا أمس الأول.. كانت مصر ورئيسها محل ثناء وموضع تقدير وإعجاب الرئيس القبرصي ورئيس الوزراء اليوناني، لدورها المتعاظم في اقتحام أزمات الإقليم ومنطقة الشرق الأوسط علي اتساعها، وأخذ زمام المبادرة في إيجاد حلول سياسية لها بما يؤدي إلي إعادة الاستقرار لدولها، ويكبح من جانب آخر تفشي آفة الإرهاب وظاهرة اللاجئين والهجرة غير الشرعية، ويعيد الأمل في إمكان تحول البحر المتوسط إلي منطقة استقرار وتعاون ورخاء لشعوبه، بالأخص في منطقة شرق المتوسط التي تعد الأكثر التهابا في العالم. عبر الرئيس أنيستاسيادس ورئيس الوزراء تسيبراس عن تقديرهما البالغ لما حققته جهود الرئيس السيسي في ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية التي تفتح المجال لإحياء عملية السلام واستئناف المفاوضات، ولما توصلت إليه من جمع الفرقاء في سوريا، ولأطراف العملية السياسية في ليبيا، وأبدي الزعيمان تطلعهما لدور مصري في إنهاء الأزمة السياسية في لبنان، الذي يعد الجار العربي الأقرب جغرافيا لقبرص واليونان، وتربطه بهما علاقات وطيدة وقديمة، في ضوء علم الرئيس القبرصي ورئيس الوزراء اليوناني بأن الرئيس السيسي سيلتقي مساء أمس الأول، فور عودته من نيقوسيا مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري. وبالفعل.. جري اللقاء ليل أمس الأول في القاهرة وسبقه اتصال تليفوني أجراه الرئيس اللبناني مع الرئيس السيسي، وتلاه زيارة قام بها الحريري إلي قبرص للقاء الرئيس انيستاسيادس، قبيل عودته إلي بيروت عند منتصف الليل. الرئيس القبرصي وجه شكرا خاصا للرئيس السيسي علي موقف مصر الداعم لجهود توحيد شطري قبرص، وتأييدها للموقف القبرصي أثناء اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي. وأبدي الرئيس أنيستاسيادس استعداده للحوار مجددا برعاية الأمين العام للأمم المتحدة حول هذه القضية، بعد أن اصطدمت الجولة الأخيرة بإصرار تركيا علي الاحتفاظ بقواتها العسكرية في شمال قبرص. ثمار القمة الخامسة لآلية التعاون الثلاثي في نيقوسيا، يمكن تلخيصها في عدة نقاط: - تكثيف التعاون الأمني وتبادل المعلومات في مواجهة الإرهاب، والتعاون المشترك وفي المحافل الدولية لوقف مصادر تمويل وتسليح الجماعات الإرهابية. - الاتفاق علي رؤية مشتركة لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وعلي استراتيجية تقوم علي مبادرات محددة في مسألة اللاجئين بالدول التي يقيمون بها. - تعزيز دور قبرص واليونان داخل الاتحاد الأوروبي لدعم الجهود المصرية وتعميق الحوار المصري الأوروبي، وتشجيع الاتحاد علي القيام بدور أكثر فاعلية لحل أزمات العراق وليبيا وفلسطين واليمن. - وعلي مستوي التعاون الاقتصادي والعلمي والثقافي.. تم الاتفاق علي المضي قدما في مشروع للربط بخطوط الغاز الطبيعي بين مصر وقبرص وجزيرة كريت اليونانية ومنها إلي أوروبا لتصبح مصر مركزا إقليميا في مجال الطاقة، وافتتاح مركز للدول الثلاث ببرج العرب لتشجيع الابتكارات والإبداع التكنولوجي لتحفيز الشباب علي ريادة الأعمال، وتوقيع مذكرة تفاهم للتعاون في مجال البواخر السياحية لتشجيع حركة السياحة إلي البلدان الثلاثة، بجانب عقد لقاء لوزراء البيئة لبلورة مشروعات التعاون وتبادل الخبرة في مجال تدوير المخلفات، وإقامة أسبوع للجاليات المصرية واليونانية والقبرصية في يناير المقبل. سبق اجتماع القمة الثلاثية.. لقاء ثنائي بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء اليوناني، تناول قضايا تعزيز التعاون الاقتصادي الثنائي، واستعراض تطورات أزمات المنطقة، وترتيبات إطلاق عام 2018، كعام للصداقة المصرية اليونانية. هذه هي ثاني زيارة للرئيس السيسي إلي نيقوسيا، لحضور القمة الثانية لآلية التعاون الثلاثي في إبريل 2016، والقمة الخامسة التي انعقدت أول أمس. لكنها أول زيارة دولة يقوم بها رئيس مصر إلي قبرص، منذ استقلالها عام 1960، بينما زار الرئيس أنيستاسيادس مصر 6 مرات منذ تولي الرئيس السيسي منصبه. صباح الاثنين الماضي وصل الرئيس السيسي إلي مطار لارناكا، في مستهل زيارته إلي قبرص، يرافقه وفد رفيع المستوي ضم سامح شكري وزير الخارجية، اللواء مصطفي شريف رئيس ديوان رئيس الجمهورية، الدكتور ياسر القاضي وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، المهندس طارق الملا وزير البترول، المهندس طارق قابيل وزير التجارة والصناعة، الوزير خالد فوزي رئيس المخابرات العامة، اللواء عباس كامل مدير مكتب رئيس الجمهورية، السفير بسام راضي المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية. وانضم إلي الوفد السفيرة مي طه خليل سفيرة مصر في قبرص. قبرص هي أقرب جار أوروبي إلي مصر. الرحلة بين العاصمتين بالطائرة تستغرق ساعة وربع الساعة. مساحة قبرص تبلغ 9251 كيلو متراً مربعاً أي أقل من نسبة 1٪ من مساحة مصر، وعدد سكانها في حدود مليون نسمة، أي نفس النسبة من عدد سكان مصر. وبرغم الأزمة المالية التي كادت تعصف بقبرص منذ 4 أعوام، استطاعت أن تتعافي بسرعة، لتحقق العام الماضي معدل نمو بلغ 4٪، وهو ثاني أعلي معدل في أوروبا، ويبلغ متوسط دخل الفرد 20 ألفا و732 يورو سنويا، ويعتمد اقتصاد البلاد علي الخدمات بنسبة 87٫2٪، ثم الصناعة والزراعة. منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1960، ترتبط قبرص بمصر بعلاقات وثيقة، وكان أول رئيس لها الأسقف مكاريوس صديقا شخصيا للزعيم جمال عبدالناصر. وفي عام 1974، قام الحكم العسكري في اليونان بتواطؤ مع مجموعات قومية متطرفة في الجزيرة التي يقطنها قبارصة يونانيون وقبارصة أتراك، بتدبير انقلاب للإطاحة بالحكومة المنتخبة، واستخدمت تركيا ذلك الانقلاب كذريعة لغزو قبرص، واستولت علي أكثر من ثلثي أراضي قبرص، وأنشأت عليها ما يسمي بجمهورية شمال قبرص التركية التي لا يعترف بها سوي تركيا وحدها، وظلت منذ ذلك الحين قوات عسكرية تركية قوامها 40 ألف جندي في الجزء الشمالي من قبرص بما فيها جزء من العاصمة نيقوسيا التي يشطرها خط الهدنة. علي مدي 14 ساعة كاملة في اليوم الأول لزيارة الرئيس السيسي إلي قبرص، ظل الرئيس أنيستاسيادس ملازما له في كل لقاءاته. في قصر الرئاسة.. عقد الرئيسان لقاء مغلقا، أعقبه اجتماع موسع ضم أعضاء الوفدين، ثم مؤتمر صحفي للرئيسين، سبقه تبادل أرفع الأوسمة، حيث أهدي الرئيس القبرصي الرئيس السيسي قلادة مكاريوس، وأهداه الرئيس قلادة النيل العظمي، وأعقب المؤتمر التوقيع علي 3 اتفاقات ومذكرات تفاهم في مجالات التعاون الأمني والاتصالات وتصنيع الدواء، تضاف إلي 35 اتفاقية للتعاون سبق توقيعها بين البلدين في شتي المجالات. أبدي الرئيسان خلال المباحثات ارتياحهما لما شهدته علاقات التعاون الاقتصادي من تطور، خاصة في مجال التبادل التجاري، حيث زادت الصادرات المصرية لقبرص بنسبة 88٪، والصادرات القبرصية لمصر بنسبة 144٪ خلال الشهور التسعة الأولي من هذا العام، وركزا في المباحثات علي الآفاق التي توفرها الاكتشافات الجديدة في مجال الغاز الطبيعي بالبحر المتوسط، بما يعود بالخير علي البلدين وشعوب المنطقة. وأظهرت المباحثات توافق وجهات النظر حول الملفات الإقليمية. بعد الظهر.. عقد البرلمان القبرصي جلسة خاصة للاستماع إلي كلمة يلقيها الرئيس عبدالفتاح السيسي. قلما يتحدث رئيس دولة أمام البرلمان القبرصي، أو أي برلمانات أجنبية. كانت هذه هي المرة الثالثة التي يتحدث فيها السيسي أمام برلمان أجنبي في زياراته الخارجية. المرة الأولي كانت أمام البرلمان الإثيوبي، والثانية كانت أمام البرلمان الياباني. احتفي البرلمان القبرصي بكلمة الرئيس السيسي، إلي حد كسر التقليد المتبع، وهو منع التصفيق داخل البرلمان. وقوبلت كلمة الرئيس بتصفيق نواب الشعب القبرصي. كما حرص رئيس البرلمان علي الوقوف عند باب الخروج، لوداع أعضاء الوفد الإعلامي المصري، بعد مغادرة الرئيس. في بداية الجلسة عبر رئيس البرلمان عن سعادته بالتعاون والتنسيق بين مصر وبلاده، مؤكدا تضامن قبرص مع مصر في نضالها ضد الإرهاب. وفي إشارة لترحيبه بدعوة الرئيس لاعتبار مكافحة الإرهاب حقا من حقوق الإنسان، قال رئيس البرلمان أن الحق في الحياة هو أسمي حقوق الإنسان، وأن دور الدولة هو الالتزام بضمان هذا الحق. وقال إن زيارة الرئيس لقبرص هي نقطة محورية لمزيد من تعميق علاقات التعاون الرائعة والممتازة بين البلدين التي تعد جسرا للتعاون بين المنطقة وأوروبا. وفي كلمته الشاملة.. ركز الرئيس السيسي علي أن التصدي للإرهاب لن يتحقق إلا من خلال تضافر جهود المجتمع الدولي في مواجهة الدول الراعية للإرهاب، وفي تعزيز التعاون في تبادل المعلومات، وتحسين الظروف المعيشية للشعوب، وتعزيز الحوار، وتطوير الخطاب والفكر الديني. وقال إننا في مصر نعمل في هذا الاتجاه، لنكون نموذجا لدول المنطقة. وكان من أهم فعاليات زيارة الرئيس لقبرص، افتتاح منتدي الأعمال المصري القبرصي الأول، الذي يجمع المستثمرين ورجال التجارة والصناعة في البلدين، في حوارات ولقاءات تستهدف تعزيز التعاون بين شركات البلدين في مختلف المجالات، وإقامة مشروعات مشتركة. تحدث رئيس قبرص أمام المنتدي، مؤكدا ان العلاقات في أفضل مراحلها علي مدار التاريخ. وتحدث المهندس طارق قابيل وزير التجارة والصناعة عن إجراءات تيسير إقامة المشروعات والمدن الصناعية المتخصصة. كما تحدث الرئيس السيسي وشرح الخطوات التي اتخذت في مجال الإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات وإزالة العقبات الإدارية أمامها، كما عرض فرص الاستثمار التي يوفرها مشروع تنمية قناة السويس والمدن الجديدة، وعبر عن تطلعه لمساهمة المستثمرين القبارصة في المشروعات القومية وتعزيز التعاون في مجال الطاقة والسياحة والثقافة والزراعة والاستزراع السمكي سواء علي المستوي الثنائي أو المستوي الثلاثي مع المستثمرين اليونانيين. برغم أن زيارة الرئيس السيسي لنيقوسيا لم تتعد 31 ساعة، علي مدي يوميها، فإن النتائج تؤكد نجاحها التام، سواء في شقها الثنائي مع قبرص، أو شقها الثلاثي في آلية التعاون التي تجمع البلدين مع اليونان. ومن الآن، وحتي موعد القمة السادسة في جزيرة كريت اليونانية العام المقبل، يستمر التشاور السياسي والزيارات المتبادلة بين كبار المسئولين في الدول الثلاث، لترسيخ دعائم الشراكة في إقليم لا تبدو أجواؤه المضطربة تصفو قريباً.