كانت غريبة تلك الدعوة التي وجهها الإخوان مبكرا لبقية القوي والقيادات والأحزاب السياسية للاتفاق علي قائمة واحدة أو موحدة يشاركون معا بها في الانتخابات البرلمانية.. لان جوهر أية انتخابات برلمانية هو التنافس علي أصوات الناخبين الذين سيفاضلون بين رؤي وافكار وبرامج مختلفة لاختيار الأفضل والأنسب منها.. واذا اختار الناخبون في أية انتخابات من خذلوهم فانهم يختارون غيرهم في الانتخابات الأخري القادمة. لكن الأكثر غرابة أن يفكر بعض الليبراليين -مجرد التفكير- في امكانية اقامة توافق سياسي بين كل القوي السياسية بما فيها الاخوان قبل الانتخابات البرلمانية.. غير مكتفين بتجمع الاحزاب والقوي الليبرالية وحدها.. وكأننا في مرحلة الاستقلال الوطني التي تتجمع فيها كل القوي الوطنية معا في مواجهة المحتل للتخلص من الاحتلال.. أو في مرحلة السعي لاسقاط نظام سياسي يحتاج لتضافر جهود كل قوي المعارضة وهو ما حدث بالفعل خلال ثورة 52 يناير. ان مثل هذه الدعوات الغريبة في جوهرها تصادر المنافسة السياسية المطلوبة والتي تبحث عنها من خلال مسابقات انتخابية حرة ونظيفة وشفافة، لا تزوير فيها لارادة الناخبين.. وبالتالي هي تعكس اما خداعا سياسيا كبيرا، أو سذاجة سياسية أكبر.. والخداع السياسي يأتي بالطبع ممن يعتقدون أنهم الأكبر والأقوي أو كما قالوا أنهم بمثابة الأم لكل القوي السياسية الأخري، حينما يطرحون فكرة القائمة الانتخابية الموحدة.. لانهم بذلك يحاولون ايهام هذه القوي أنهم لا يمنعون الانفراد بالسلطة والهيمنة علي الحكم وحدهم، وانما يريدون مشاركة كل الفرقاء معهم في السلطة وباختيارهم وليسوا مكرهين، بينما هم في الحقيقة يريدون هذه المشاركة رمزية لانهم يبحثون هم وحلفاؤهم الأقرب والذين يشاركونهم الايمان بالمرجعية الدينية للدولة عن الأغلبية في الانتخابات البرلمانية.. أما السذاجة السياسية فانها تأتي ممن يتصورون أن من يعتبر نفسه الأقوي سوف يتنازل طوعا عن أغلبية برلمانية يتصور انه في مقدوره تخفيفها، أو عن سلطة يعتقد أن الوقت قد حان ليفوز بها، أو أن فرصته التاريخية قد جاءت لينالها بعد أن جربنا من قبل منحها لكل من الليبراليين والقوميين ولم يصنعوا بها المجد الذي تهفوا اليه كما يقولون. وهذه السذاجة السياسية لا تقل خطورة علي مسيرة القوي الداعية للدول المدنية من أجل تحقيق هذا الهدف، مما تفعله هذه القوي الان وهي تترك ميدان العمل السياسي والجماهيري الحقيقي خاليا الا من القوي الداعية للدولة المدنية المسخ أو المزيفة والتي هي في حقيقتها دولة دينية مقنعة، وتستبدل ذلك بالتظاهر وحده في ميدان التحرير. فالمطلوب الان منازلة سياسية حقيقية وواسعة بين أنصار الدولة المدنية الحقيقية وأنصار الدولة المدنية المزيفة.. منازلة لا تقتصر فقط علي ميدان التحرير، وانما تتسع لكل ميادين وشوارع وأزقة وحواري مدن مصر وقراها.. منازلة سياسية تكسب كل يوم مؤيدين جدد، وتقنع الناخبين في نهاية المطاف بأن يصوتوا لمن يريدونها دولة مدنية حقيقية.. لان هذه الدولة هي الديمقراطية وليست الدولة المدنية المزيفة أو الدينية المقنعة. وهذه المنازلة السياسية لا يمكن أن يتم في اطارها تطبيق هذه الأفكار الساذجة سياسيا حول توحد كل القوي السياسية بما فيها الإخوان والليبراليين والقوميين واليساريين خلال الانتخابات القادمة.. وهذا ما يدركه الإخوان أنفسهم وحلفاؤهم من الاحزاب والقوي الدينية الأخري.. وهذا هو سبب عدم مشاركتهم في مظاهرة 72 مايو، واتهامهم من شاركوا بأنهم يتورطون في الوقيعة بين الجيش والشعب.. أي أنهم يستخدمون كل أساليب وجيل السياسة في هذه المنازل من أجل جذب المؤيدين وكسب الناخبين الي صفهم.. بينما تبدو القوي الأخري مفاجأة من ذلك، وكأنها تخوض ميدان السياسة لأول مرة، أو كأنها لا تعرف ما يستخدم في ميدان السياسية من حيل والاعيب بل وتوجيه اتهامات وضربات للخصوم والمنافسين السياسيين، حتي تحت الحزام.. مع أنهم يرددون دائمين ضرورة فصل الدين عن السياسة، لأن الدين مقدس لا غش ولا خداع فيه مثل السياسة! أفهم أن ندعو لتوافق بين الجميع.. جميع الفرقاء السياسيين حول أسس الدستور لان الدستور يحدد القواعد التي ستحكم حياتنا لفترة طويلة، حياة الجميع مع اختلاف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية وتفاوت مصالحهم.. فهذا أمر منطقي ومفهوم ومقبول، ونتمني بالفعل ان يتم، من خلال مشاركة كل القوي السياسية المختلفة بما فيها المتحمسة لفكرة الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، في صياغة أسس هذا الدستور ومواده. لا اعداد ما يقال لنا عنه الان مباديء فوق دستورية، فلا يوجد شيء فوق الدستور. ولكني لا أفهم أن يتخلي الفرقاء السياسيون عن تنافسهم للحصول علي رضا الناخبين.. لانهم بذلك يهدرون حق الناخب في الاختيار.. أي يهدمون أحد أسس الديمقراطية التي نسعي لاقامتها.. ان المنافسة هي التي تمنحنا الافضل والأكثر قدرة علي قول الحكم.. والمنافسة هي التي تمنح الراغبين في الحكم الفرصة لتصحيح اخطائهم وعلاج عيوبهم وتعديل برامجهم وخططهم.. فلماذا نهدر هذه المنافسة ونضع علي انفسنا اختيار الأفضل.. ومن يجد نفسه ضعيفا وغير قادر علي هذه المنافسة فليبحث عما يقويه ويمنحه القدرة بدلا من الاحتماء وراء بعض الافكار السياسية الساذجة التي يخدعه بها من يري نفسه هو الأقوي والأقدر.