في الإسكندرية طبعا كان تكويني وجنوحي إلي اقتراف ذنب الأدب! وفيها أحببت معاصرين محترمين كثيرين يعيشون في القاهرة ومنهم الكاتب والمؤرخ الكبير صلاح عيسي. كان كتابه »حكايات من مصر» ملهما بقدر ما ألهمنا كتاب »أيام لها تاريخ» لأحمد بهاء الدين. عرفت من الأحاديث التي تتناثر حولي ومن كتابات صلاح عيسي طبعا أنه من اليسار. ومثل غيره وقع عليه عسف كبير فكان رهن الاعتقال أكثر من مرة في عهد عبد الناصر وفي عهد السادات. التقيت به طبعا في القاهرة. كان يدير مكتبا للمراسلات الصحفية ومعه المرحوم سيد خميس وكنت أحد الكتاب المتعاملين معهما قبل أن أكف عن الكتابة الصحفية وأتفرغ للرواية. كانت الكتابة في الصحف العربية ذلك الوقت هي الأفضل وكنا عازفين عن صحافة السادات. لم تكن كامب ديفيد قد حدثت بعد ومن ثم كانت مكاتب هذه الصحف مشروعة. لم يطل الوقت بصلاح عيسي ولا بهذا المكتب طبعا بعد القطيعة بين مصر والعرب بعد كامب ديفيد وظلت علاقتي به كقارئ متيم بأعماله. صلاح عيسي الحاصل علي بكالوريوس في الخدمة الاجتماعية عمل في الوحدات الاجتماعية بالريف المصري ولابد رأي ما لا يراه أحد من حياة الناس لذلك انعطف بسرعة من كتابة القصة إلي كتابة الدراسات السياسية والاجتماعية والتاريخية. كان للحكاية في بعضها البطولة الكبيرة فهو قادم من عالم الأدب كما هو في الحال في كتاب »حكايات من دفتر الوطن» أو كتاب »البرنسيسة والأفندي»، الذي يؤرخ فيه ويبحث قصة زواج البرنسيسة فتحية صغري شقيقات الملك فاروق من القبطي رياض غالي السكرتير الثالث في القنصلية المصرية في مارسيليا في ربيع عام 1950، وما أثاره ذلك من عواصف سياسية وطائفية وثورة وخلاف في العائلة الملكية وكيف انتهت القصة بالمأساة بأن أطلق »رياض أفندي غالي» ثلاث رصاصات علي رأس زوجته البرنسيسة »فتحية» ثم الرابعة والأخيرة علي رأسه هو. أو كتاب » حكاية مقتل مأمور البداري » وهي التي جرت وقائعها بعد أن تولي إسماعيل صدقي الوزارة عام 1932 والاعتداء علي الدستور وتكميم الأفواه والمظاهرات العارمة التي كانت ضده وإطلاق يد الشرطة في التنكيل بالمعارضين فأصبحت إهانة الكرامة والتعذيب في إقسام الشرطة أسلوبا معتادا ثم مقتل مأمور البداري علي يد اثنين من أبناء مركز البداري، وقد حكمت محكمة جنايات أسيوط بإعدام واحد منهما وبالأشغال الشاقة المؤبدة علي الثاني، وعند الطعن بالنقض في الحكم اكتشفت محكمة النقض أن جريمة القتل كانت بسبب قيام المأمور بتعذيب المواطنين الذين يقبض عليهم، وكان من بين من تعرضوا للتعذيب الرجلان اللذان قتلاه، حيث قام بتعذيبهما وتعريتهما وهتك عرضهما أمام الأهالي. وأدانت المحكمة برئاسة عبد العزيز فهمي باشا في حكم تاريخي لها صدر يوم 5 ديسمبر سنة 1932 فساد النظام وأفعال رجال البوليس التي وصفتها بأنها »إجرام في إجرام»، وقالت المحكمة أيضا: »إن من وقائع هذه القضية ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة، وإنها من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلي الانتقام». ورأت محكمة النقض أن ما جعلته محكمة جنايات أسيوط موجبا لاستعمال الشدة كان يجب أن يكون من مقتضيات استعمال الرأفة. وفي كتابه مثقفون وعسكر حكايات عن الصراع بين لغة الكلمات والعقل للمثقفين ولغة القوة والاعتقال وأحيانا الرصاص فيروي شهادته وتجاربه عن المثقفين في ظل عبد الناصر والسادات. صلاح عيسي الذي لم يفكر في الحصول علي الدكتوراة للعمل بالجامعة وأخلص إخلاص العلماء وراح يستجلي الغائب من دراسة الأصول الاجتماعية والاقتصادية للأحداث الكبري مثل الثورة العرابية وغيرها. وكان هذا هو السحر في أعماله فلديه دائما الجديد المقنع من الفهم والتفسير. كما كان إخلاصه لمنهجه وهو الصحفي الذي يمكن أن تغريه الصحافة بالسهل والانتشار لكنه يعرف منذ وقت مبكر أن الصحافة ليست بالأمر الساذج لكنها يمكن أن تكون ضميرا للأمة وهكذا كان في كتاباته الصحفية أو مسئولياته عن صحف أدارها. كتب كتابا من أعظم ما كتب إن لم يكن الأعظم والأوحد حتي الآن عن ريا وسكينة بعنوان » رجال ريا وسكينة » كتاب تحفة في العلم والفن والحكي جدير بأن يطبع بحروف من ذهب. ولن أحدثك عن كل كتبه ولا حتي بعضها مثل » شاعر تكدير الأمن العام » شهادة حية علي شعر وحياة أحمد فؤاد نجم ولا »تباريح جريح» ولا »شخصيات لها العجب» وغيرها فكلها متاحة لكن صلاح عيسي رغم هذا التاريخ لم تحتف به الدولة ولم يحصل علي أي تكريم أو جائزة وهو الجدير بكل التكريم والجوائز. وهذا من عجائب مصر والله.