كان عمه يعمل في خدمة الخليفة هارون الرشيد، ويجمع أخبار بغداد ويسلمها إلي والي البريد، ليوصلها إلي الخليفة إذا ما كان خارج بغداد وتنقطع أخبار بغداد فجأة عن الخليفة فيرسل إلي الوالي مستفسرا فسأل الوالي بدوره عم أحمد، وكان أحمد غلاما صغيرا يرسله العم بالأخبار إلي الوالي.. سأله العم: ألم أبعث الأخبار معك إلي الوالي؟! قال أحمد: نعم فعاد يسأله فلأي شيء لم توصلها؟.. قال أحمد »رميت بها في الماء!.. أنا أوصل الأخبار؟!« وحين سمع الوالي بما كان من أمر أحمد والأخبار قال «إنا لله وإنا إليه راجعون.. هذا غلام ورع.. فكيف بنا نحن».. وعلي هذا الورع نشأ أحمد بن حنبل، حتي أن نساء الجند الذين سافروا مع الرشيد في الغزو كن لا يجدن فتي غيره يثقن فيه ليقرأ لهن رسائل الأزواج، ويملين عليه الردود، ولكنه كان يمتنع عن كتابة الكلام الخارج الذي قد تمليه بعض الزوجات المتشوقات إلي الأزواج في البعد!! لم يتراجع ابن حنبل عن موقفه في قضية خلق القرآن، وكان صبره جميلا كما جاء في قوله تعالي ليعقوب عليه السلام «فصبر جميل» ظل صبورا ثابتاً لا يطيش صوابه حتي أنه وسط أغلاله في حضرة الخليفة وقد ضرب عنق رجلين أمامه وقع بصره علي أحد أصحاب الشافعي فسأله: «وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح عن الخفين؟» فأثار دهشة الحاضرين حتي صرخ خصمه أحمد بن أبي داود متعجبا: «أنظروا الرجل قادم علي ضرب عنقه يناظر في الفقه!!!» انها النفس المسلمة لقضاء الله وقدره.. وحين يئس معذبوه أعادوه إلي بيته مثخن الجراح لا يقوي علي السير، وقد انتصر بتقواه، وهزم أصحاب السياط، وانقطع عن الدرس إلي أن هدأت جراحه من آثار وندوب التعذيب، ويموت المعتصم ويتولي الخليفة الواثق الذي يعيد المحنة إلي حياة ابن حنبل بمشورة الداهية ابن أبي داود وذلك بتحديد إقامة أحمد وإجباره علي السكن في منفي بعيد عن إقامة الخليفة الواثق، فبقي مختفيا يعيش حياة الظل طوال خمس سنوات من 228ه إلي 232ه إلي أن مات الواثق وتولي المتوكل الذي حارب الاعتزال وعاد أحمد عزيزا مكرما إلي التدريس في المسجد ليغدو مثالا خارقا لصاحب الرأي الذي يناضل في سبيل رأيه فأكبره الذين يوافقونه والذين يخالفونه علي السواء إلا الذين في قلوبهم مرض. وهكذا أصبح ابن حنبل حجة في العلم والإيمان.