كانت أول يوميات نشرت لي هي خطاب أرسلته من اليمن حيث كان زوجي يعمل هناك كبيراً لخبراء الأممالمتحدة وقد نشر أستاذي موسي صبري الخطاب كاملاً كيوميات أرسلتها من هناك وفوجئت بالسفير يرسل لي الجريدة ويقول لي يومياتك منشورة اليوم وكانت سعادتي لا توصف حيث اصبحت مع كبار الكتاب في مكان واحد وفي اليوم التالي علق أستاذي جلال الحمامصي - رحمه الله - علي اليوميات وأثني عليها وهو لا يعرف أنها كانت مجرد خطاب أشرح لاستاذي موسي صبري المجتمع هناك والعلاقات المصرية اليمنية والتي كانت وما زالت وثيقة وأخوية وأن أهل اليمن لا ينسون ما فعلته مصر من أجلهم وأن مصر نقلت جيشاً كاملاً بعتاده وجنوده وضباطه لكي تستقر اليمن أمنياً واقتصادياً وسياسياً. ولا أدري هل مازالت هذه المشاعر الجميلة موجودة لديهم أم محاها الزمن وظروف المؤامرات والحرب الاهلية لأن الزمن اصبح يغير الناس ويدعم الانانية بشكل كأنه متعمد ولكن أهل اليمن أبعد ما يكونون عن ذلك وتشجعت وأحسست أنني اصبحت ملتزمة بالكتابة في اليوميات مثل كبار الكتاب. وبدأ اساتذتي في اختيار الشباب الذين يشاركون كبار الكتاب في كتابة اليوميات ولكن ظلت يومياتي هي الوحيدة التي تنشر لمدة عامين دون أن يظهر نجم آخر في الساحة لكي يشارك الكبار هذا الشرف العظيم وهو شرف فعلا يستحق الحفاظ عليه والحفاظ علي الشخصية التي تخطت المواقع التي اقتحمت بها مواقع الكبار. وقد ارسلت أكثر من يوميات من اليمن حتي اصبحت تصلح لأن تتحول إلي كتاب قدمته فعلاً تحت عنوان (اليمن الجبل والناس) وكان له معجبون كثيرون لأن الكتاب لم يستطيعوا حتي الذين سافروا إلي اليمن - ان ينقلوا صورة (مفصلة) صادقة مثل ما فعلت في يومياتي وفي الواقع أن اليمن بكل ما به من تراث يحتاج دائماً لإلقاء الضوء عليه. وقد ذهبت مع الزميل العظيم المصور حسام دياب في رحلة إلي اليمن وقمنا بمسح جغرافي صحفي شامل لليمن وكانت سلسلة من الموضوعات في مجلة سيدتي وكأنني أردت أن ارسم خريطة اليمن مفتوحة القلب والعين لأول مرة للناس. البلد الذي عشقته ومازلت حتي الآن اشعر أن اليمن هو القلب الذي لم يتغير سواء الناس أو التراث أو الأخلاق والاصالة ان اليمنيين شديد الحرص علي تراثهم وكذلك الأخلاق التراثية والتي ترحب بالغريب وكأنه ابن البلد. ومازال في اليمن باب عظيم ضخم اسمه (باب اليمن)وحينما تدخله تجد نفسك في عالم آخر لم يتغير وسوق أسمه سوق الملح ثم بجانبه جبل صبر وهو جبل مرتفع له خصوصيات خصوصاً في نسائه اللاتي يقمن بأعمال كثيرة بدلاً من الرجال في اقتصاديات الاسرة ويقال ان المسجد الموجود في جبل صبر هو المسجد الذي نام فيه أهل الكهف في صورتهم المعروفة بالقرآن الكريم والمرأة اليمنية شديدة الإحساس بالمسئولية وليس عندها مقولة هذا للرجل وهذا للمرأة ورغم (الخمار) الذي تضعه علي وجهها الا أنها محررة العقل الي اقصي درجة ومثقفة ثقافة بيئية رائعة وشديدة المقدرة علي إدارة بيتها والمحافظة علي قدرات زوجها في حركته الاقتصادية فلا تضغط عليه وانما تشعره دائماً أن (الخير كثير) وأن البيت مستريح وبه كل شيء وأنه سيد البيت دائماً. أما من ناحية تربية الأولاد فإن الصغار هناك يشاركون في الناحية الاقتصادية حيث يخرجون من المدارس ويقومون ببعض الأعمال ولا فرق بين غني وفقير فحركة المجتمع حركة للجميع فتري التلاميذ يبيعون الحلوي وعلب الكبريت وهذا ليس معناه الحاجة للمال ولكن التعود علي شرف العمل وهو أسلوب ليتنا نتخذه جميعاً مع أولادنا بدلاً من التواكل علينا دائماً. وكذلك يخرج التلاميذ من المدرسة وبعضهم يذهب ليجلس مع جده أو والده في سوق الملح هذا في السبعينيات حينما كان زوجي رحمه الله في اليمن والذي كان محاطاً بأصدقاء وموظفين ولعين بالعمل وفي قمة النشاط للمعرفة بكل جديد في ممارسة العمل وقد قال لي زوجي رحمه الله (وكان قد عمل في أماكن أخري) إنه لم ير ذكاء وسرعة فهم للعمل مثل الشباب اليمني والرجال ايضاً وكذلك المقدرة علي تطويع النظريات الغربية لما ينفع بلادهم ويناسب متطلبات الحياة فيها وأن اليمنيين يتمتعون بخاصية عجيبة جداً وهي الحفاظ علي التراث ثم مزاولة المعاصرة والدخول في العصر بما ينفع الناس دون المساس بأي تغيير ولو بسيطا جداً بتراثهم حتي أنهم يحافظون علي الخنجر اليمني ليضعوه حول (وسطهم) عند الخروج يوم الجمعة وحتي السفراء يحتفظون بخناجرهم التراثية حتي يضعوها عند العودة إلي الوطن. وقد حاورت اكثر من رئيس يمني ومنهم الرئيس الراحل ابراهيم الخمدي والذي قاد الثورة ولكنه كان شديد الاحتفاظ بتراثه. كما حاورت أهم شعراء اليمن العظيم عبدالله البردوني وأثناء حواري معه ناداه رجل من خارج البيت شعراً فرد عليه شعراً وأنا أحاوره واعتذر لي لمقاطعتي لأنه لابد أن يرد عليه حيث هذا يعتبر نزولاً عن قيمته كشاعر إذا لم يرد وفي واقع الأمر إنني لابد أن أكتب كتاباً عن هذا البلد الذي حافظ علي تراثه واستطاع أن يلحق بالتجديد والمدنية في كل شيء دون أن يهتز تراثه وعاداته ومن أجمل اللوحات في بيتي لوحة صورها الراحل الغالي زميلي الصحفي الذي كان مولعاً بالسفر جمال حمدي واللوحة لبيت يمني بديع العمارة والذي يمتاز باحتوائه علياللون الأبيض حول كل أبوابه (وشبابيكه) ومدخله وفوق سطحه وبالرغم من وجود النباتات الحديثة الكثيرة في اليمن إلا أنهم مازالوا محافظين علي تراثهم ومازالوا يبنون بعض البيوت بنفس التراث البديع والذي من خصوصياته المحافظة علي الجو داخل البيت رطباً في الحر ودافئاً في الشتاء. وقد حرصت حينما عدت إلي القاهرة أن أقوم بعمل حجرة يمني بقعدات علي الأرض ومساند وبوسطها (طبالي) نتناول عليها الطعام والحلوي وكان جيراني في اليمن ناس في غاية الكرم والذكاء وحسن العشرة مثل أهل اليمن جميعاً وكنت أسكن في منزل لرجل اسمه (الزماري) فكان البيت معروفاً باسمه. وهناك لايقولون السيد فلان بل يقولون يا فؤاد ويا نعم وكان أحمد ابني صغيراً لما سأله سائق والده عن اسمه قال له (الاستاذ أحمد) فحينما سمعت الرجل يناديه يا استاذ أحمد تعجبت لأنه يقول لي يا نعم وزوجي يا فؤاد واتضح أن أحمد حينما قال له ان اسمه الاستاذ أحمد اعتقد أن هذا هو اسمه وليس لقبه.. وهكذا كان الصدق والخلق الطيب والسماح من أخلاقيات هذا الشعب العجيب وقد مر من الزمن حوالي الأربعين عاما منذ أن غادرنا هذا البلد الرائع بناسه وتراثه. وهذا البلد الجميل بناسه البسطاء الاذكياء الشديدي الترحيب بالغريب وقد سافرت إلي العالم كله عدا استراليا واسرائيل طبعاً ولكن لم أجد بلداً في العالم حافظ علي تراثه وعاداته مثل اليمن سواء البشر أو الأماكن سواء النساء أم الرجال. حفظ الله اليمن هذا البلد العربي الذي لم يستطع مستعمر أن يغير من عاداته أو تراثه أو أخلاقياته حفظ الله اليمن بلدا عربياً عظيماً شديد الاصالة وكفاه شر الدمار والمؤامرات والتقسيم الذي يملأ المنطقة. أحمد ابني واليمن وابني أحمد فؤاد خبير السيارات كبر وتزوج وأنجب والحمد لله وطاف العالم سواء في عمله أو معنا فقد سافر إلي انجلترا وفرنسا وإيطاليا والنمسا وهولندا والمانيا وبلاد كثيرة لا اتذكرها ولكنه مازال حتي الآن يحب اليمن ويفضله علي أجمل بلاد العالم.. إنه يحب اليمن البشر واليمن الارض وكل ما في اليمن وقد احسست أنه يحب اليمن لانني كلما سألته اين يحب أن يسافر قال: اليمن رغم أنه اعجب بأوروبا وله صداقات هناك إلا أن اليمن له عنده منزلة خاصة ليس لطفولته التي امضاها هناك ولا للمدرسة الدولية التي بدأ منها تعليمه ولكنه يحب الاصالة ويقول لي إنه رغم جمال البلاد الأوروبية كلها والحدائق الغناء والشوارع المتسعة إلا أن اليمن محتفظ بأصالته وأن ناسه بسطاء ومرحبون بالغريب أكثر من أي بلد آخر. وهكذا يقول ابني ان الذي لم يزر اليمن لم ير البشر الحقيقيين غير المزيفين والذين يعيشون الحياة البسيطة مهما كانت قدرتهم علي الحياة الأوروبية فهم محافظون علي تراثهم حتي في بيوتهم ذات البنايات الحديثة. التحية لليمن وأهل اليمن وأبعد الله عنهم كل شر وما أكثر شرير السطو علي البلاد هذه الايام!! كان الله في عون أولادي رؤساء التحرير!! كنا منذ أكثر من ثلاثين عاما (نتفنن)في اختيار (المانشتات) أو العناوين العريضة التي تتصدر الجريدة وتعتبر (الفاترينة) التي نغري بها القاري للشراء. أما الآن فإن التليفزيون اصبح يحرق (العناوين) بعد صدورها بدقائق وكنا حينما عشنا كبار الصحفيين والكتاب مثل الاساتذة علي أمين ومصطفي أمين ومحمد التابعي وجلال الحمامصي وموسي صبري وسعيد سنبل زميلنا الذي اصبح رئيساً لتحريرنا وإبراهيم سعدة وحديثا ولدنا النابغ خالد ميري فكنا ننتظر وتنتظر المطبعة حتي نصل الي العناوين التي سوف تتصدر الجريدة وسوف نبيع منها وأحياناً نلحق بالطبعة الاولي بعنوان والطبعة الثانية بعنوان آخر لحدث جديد وكان هناك جنود مجهولون يزاولون مهنة سرية هي معرفة (مانشيت) الصحف المنافسة حتي نطلع بمانشيت مخالف في حدث و(نتفنن) لنحرق للجرائد الأخري العناوين التي وضعوها في الطبعة الأولي. ولكن بعد ظهور التليفزيون الذي اصبح يحرق كل الأخبار والعناوين أصبح المهم عندنا هو المواضيع وكتابة التعليقات التي يكتبها كبار الكتاب والذين تعود القارئ أن يلجأ اليهم ليعرف الصحيح كما يعرف مواجهة هذه الأخبار ونتائجها. أصبح كتاب الرأي والمعلقون علي الأخبار خصوصا المعارضين للحكم هم الأهم لدي القارئ وكأنهم يعبرون عن رأيه ويعارضون له ويقفون ضد آراء الآخرين ويقولون (للأعور إنت أعور في عينه) وجريدتي الغالية التي احتضنت موهبتي وأنا صغيرة (الأخبار) وشجعني اساتذتي الكبار الذين ذكرتهم في أول اليوميات علي الكتابة وجعلوني أكتب رأيي (ولا يهمني) زيد من عبيد!! مسك الختام : مهما اتسقت الأرض وامتلأت بالبشر فسوف تظل الاخلاق هي المسيطرة سواء في ناطحات السحاب أو في العشش في أفقر بلاد الدنيا (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا).