هي صناعة بلا حدود.. صناعة يتقنها كل إنسان علي وجه الأرض وبكل اللغات.. صناعة لا يراقب فيها أحد نفسه سواء الصانع أو المصنوع به وفجأة يضيق الصانع بالمصنوع.. ولكن يكون الوقت قد فات فقد أتقنت الصناعة ونسي الديكتاتور كيانه بعد أن استسلم لديكتاتورية عربدت وتمكنت في خلاياه وحفرت تفاصيلها ليس في عقله فقط ولكن في كل حركاته وسكناته حتي أصبح يتصرف ببساطة شديدة وتصبح كل هيافاته عبقرية وكل ألفاظه بالحق الإلهي!!! في عمري الذي يتجاوز الخامسة والسبعين حضرت أكثر من ديكتاتور والديكتاتور بالمناسبة ليس الحاكم فقط أحياناً يكون الأم أو الأب أو الأستاذ أو كبير الفراشين في المدرسة أو ملك الطماطم والبصل والخيار في سوق الخضار.. حضرت في عام 87 كيف يحكم المعلم خضر منّاع سوق الخضار في امبابة وكيف يرفع سعر الطماطم من خمسة قروش إلي خمسة عشر قرشاً.. حضرت رؤساء تحرير ومازلت أحضر للآن رئيس تحرير التف حوله المنتفعون وأفهموه أنه الصحفي الوحيد الذي يفهم وأنه القائد الوحيد الذي يستطيع أن يرفع التوزيع ولو غاب سوف يسقط المشروع الصحفي كله.. وكيف ارتفع وهو جديد.. ويدهس بالقدمين باقي الشغالة الذين يجمعون الرحيق كما النحل ليملأوا الصفحات ويتحول المنتفعون إلي كبار كتاب يسافرون ويتمتعون بالنشر وبدل السفر.. عرفت رئيس تحرير شاب استطاع أن يسيطر وأن يرفع مرتب من يريد إلي خمسة آلاف جنيه ويخسف بالأرض من يريد بألف جنيه.. وللعجب أن من يأخذ الألف جنيه يساهم في صناعة الديكتاتور.. هذا في حال أصحاب الصحف المستقلة!! حضرت مدير مستشفي »طبيب« تحول من طبيب إلي ديكتاتور وحول طبيعة المستشفي من مكان للرحمة إلي مكان لجمع المال وقهر الناس، تحجز جثة الميت حتي يجمع ذووه آلاف الجنيهات من الجيران وجيران الجيران لينفذ علي المتوفي إكرام الميت.. ويساهم في صناعة الديكتاتور كل من حوله البعض من أجل المال والبعض الآخر من أجل إقناع نفسه بأنه يفهم وأنه يساهم في الحفاظ علي المستشفي بالحفاظ علي الديكتاتور.. والعلاقة بين الديكتاتور وصانعه مثل العلاقة بين طرفي المقص إذا التقيا ذبح ما بينهما وإذا تفرقا أفزعا من حولهما.. وصناعة الديكتاتور تتم بالتقادم والعشرة وتعود كل منهما علي سلوكياته سواء صانع الديكتاتور أو المصنوع به أي الديكتاتور نفسه. والغريب أن معظم من يصبحون ديكتاتوريين تحتوي تركيبتهم البشرية علي خاصية مميزة فمثلاً يكون سريع البديهة حاضر النكتة.. مبدع في تفكيره.. ميال لفعل الخير.. ويساعد صانعه علي نمو هذه الخاصية بالإعجاب والاستزادة في أسلوب الإعجاب حتي يعطيه تعود الألوهية. ولدي عادة دائمة بكتابة ملاحظات فيما أكون في لقاء مهم، وعدت إلي أوراقي التي دونت فيها ملاحظاتي حينما دعانا الرئيس السابق مبارك لزيارة مشروع توشكي وبالمناسبة كان هذا المشروع بالنسبة لي هو الخلاص من الحوجة للأمريكان في مسألة القمح وهو أيضاً الهروب من التكدس في الدلتا وهو الخروج أيضاً من مأزق هجرة الشباب.. فكنت سعيدة جداً بالدعوة وكنا مجموعة أحسن اختيارها ما بين معارضين وسفيقة »من تصفيق« كانت المجموعة كما كتبت في أوراقي هي محفوظ الأنصاري وابراهيم نافع والمهندس ماهر أباظة وصلاح قبضايا والشاعر الأبنودي والفنان صلاح السعدني ومصطفي بكري ومجدي أحمد حسين، والوزيرة ميرفت التلاوي والوزيرة نادية مكرم عبيد وجلال دويدار وعماد أديب، وبعض رجال الأعمال وهم من صناع الديكتاتور طبعاً. كان هذا عام 7991 ولم يكن الفساد قد أحكم قبضته بعد وكان معنا من الفنانين هالة صدقي وسميرة أحمد. وبعد الإفطار في الطائرة ظهر الرئيس علي الباب الفاصل بيننا وبين صالونه وسلم علينا جميعاً واحداً واحداً وتحدث في كل شيء ببساطة شديدة فيها عبقرية محسوبة أي نقد لما يحدث من تجاوزات وحينما وصل لمجدي أحمد حسين أمسك ذقنه وقال له: انتوا مش حتبطلوا الكلام ده.. الحاجات دي مالهاش لزوم. ورد أحد صناع الديكتاتور: عندك حق يا ريس.. بطل يا مجدي. وسألته هل سينجح عرفات مع كلينتون؟ فقال لي: »سلمي لي علي المترو« وكتبت بجانبها ليست للنشر ولكن أحد صناع الديكتاتور قال: »صح ذكي«. وجلسنا علي شكل صالون في آخر الطائرة وكنت أقوم بالتصوير بكاميرتي الصغيرة ولكن الدكتور زكريا أخفي مني الكاميرا.. ووصلنا إلي توشكي.. عند فتح المياه وبعد أن جلسنا في قاعة وتم شرح المشروع »كان يفرح والله« وسألت الرئيس: هل الأولوية لأوائل الزراعة في هذه الأرض؟ فقال: لا زراعة ولا غيره.. كل واحد بييجي ياخد.. طب، هندسة، تجارة.. كله حيشتغل ويزرع »ورد صناع الديكتاتور: صح يا ريس رأيك«. سألنا عن نتنياهو وكلينتون فقال: بلا نتنياهو بلا غيره.. خلينا احنا هنا »ورد صانع الديكتاتور: خلينا في توشكي مع الريس«. فسألنا: هل الأولوية لجنوبالوادي؟ لأ.. كله ييجي وياخد ويعمر الأماكن المزدحمة بالسكان. وسانده صانع الديكتاتور بسرعة: »رأي مضبوط الأماكن المزدحمة أولي« لاغياً التخصص من أجل صناعة الديكتاتور. وقال صلاح السعدني: إيه رأيك يا ريس في الصعيد؟ قاطعه الرئيس: ماتقولش الصعيد قول جنوبالوادي »قال أحد الطبالين: مضبوط جنوبالوادي«. وتفرع الحوار إلي ميرفت التلاوي فقد علم سفير إسرائيل في اليابان باختيارها وزيرة فسألها: خارجية ولا داخلية؟ قالت: لا أعلم. فقال لها: أفضل الداخلية!! وضحك الرئيس وقال لها: لأ الأوقاف.. »والله يا ريس رأيك صحيح.. المرأة للأوقاف«.. وابتسم الرئيس في رضي. وببساطة حصل علي إعجاب الجميع مما أشعل الرغبة في صناع الديكتاتور وحنيما أخذ الفأس ليزرع شجرة قلت له: ريسنا فلاح.. »وقال صانع الديكتاتور: فعلاً هيه فلاحة يا ريس« فقال: يعني يا أخت انت اللي خوجاية ماانت فلاحة!! ووصلنا إلي الآبار الارتوازية وقال وزير الري: إنها كثيرة وعلي عمق كبير. فقلت: ما نصدر المية مادامت كتير!! فقال الرئيس بسرعة: أوعي تقولي كده أحسن أثيوبيا يقعدوا يقولوا المية، المية احنا بس نزرع ونكفي نفسنا. »ورد بسرعة المساهم الأكبر في صناعة الديكتاتور.. الرئيس عارف كل حاجة وفاهم هو بيعمل إيه«. وسألته في رحلة العودة: هل روسيا حتحاول تثبت وجودها أمام أمريكا؟ فقال: يا اختي روسيا عاوزة فلوسها.. لها 4 مليارات عند العراق و21 ملياراً عند العقيد.. السياسة مصالح. روسيا عاوزة تثبت مصالحها. »قال الجهبز: عندك حق يا ريس الدنيا فلوس« وسألته سؤال إنساني: يا ريس حفيدك ربنا يخليه.. تتمني لما يكبر يطلع إيه؟ قال: قعدت طيار 62 سنة تعبت جداً و22 سنة سياسي شفت الويل.. لا عاوزه يطلع ده ولا ده! قلت أشير إلي بداية علاء وجمال عاوزه رجل أعمال؟ قال الدكتور الجنزوري: عاوزه يطلع صحفي. قال الرئيس السابق: علشان يطلع جرنال يشتم فيه اللي هوه عاوزه وضحك الصحفيين طرباً وكأنه يمدحهم كان الإعجاب يملأ الجميع وكانت كل كلمة تقابل بتعليقات تنمي الديكتاتور وكأنه بيديه الفيلسوف أو كأنه ديكارت.. أو سقراط وأمامي تمت صناعة الديكتاتور.. وهكذا يصدق المصنوع به نفسه ويصدق الصانعون أنفسهم.. ولكن لم يكن أحد منهم يتصور ما حدث في ميدان التحرير ولا الموجودين الآن علي مقاعد الديكتاتورية في كل مكان علي ظهر الأرض. وقد كنت بالصدفة في الطائرة وسمعت بأذني مقولات الاستحسان كأنها حفل لأم كلثوم أو عبدالوهاب ومازالت الصناعة مستمرة والديكتاتورية تحكم كل مكان لا يصدقون كل أصحاب الأعمدة حتي في صحف المعارضة!! هذه عينة فقط أسجلها بعد سقوط الديكتاتور وسوف أكتب عن الباقي عند السقوط بإذن واحد أحد.