ضائعون في الفضاء الرهيب، معلقة أذهانهم وأفئدتهم في الهواء المسموم، لذا تري الآلاف من أبنائنا زائغة أبصارهم، مذبذبين، تتأرجح خطاهم علي الطرقات، ولا يعرفون وجهة يقصدونها، وكأن أجيالنا الصاعدة دخلت المتاهة بأقدامها، ولم تكن تدري أن هذا العالم الافتراضي المخيف ليس هو الدنيا بأسرها، وأنه لا يمكن أن يمثل الحقيقة، وأنه لا يترفع علي أن يكون هاوية، تبتلع الخطي القوية الفتية، ولا يستنكف هذا الفضاء الهائل من مواقع التواصل وقنوات مرئية ومسموعة أن يتحول إلي طوفان من الفوضي العارمة والاضطراب الأعمي الذي يصيب الوعي في مقتل، ويختطف البوصلة من أيدي الصاعدين، ويسلبهم أغلي ما يملكون من قيم، ومن معان لا يمكن أن يحيا المرء سويا من دونها، وفي مقدمتها الانتماء إلي كيان أكبر، والانتساب إلي جذور أعمق. وفي وسط الطوفان تبزغ ملاحمنا الوطنية كشمس تبدد ظلمة التغريب والحيرة، وكأطواق نجاة تنتشل الغرقي التائهين، فملحمة »الحفار» التي خطها قلم المبدع الفذ الراحل صالح مرسي يمكن أن تصبح بوصلة لآلاف الغارقين في مستنقعات التشتيت والتغريب، إذا ما تواصلوا معها، وقرأوها، واطلعوا علي المعاني التي تسمو بالنفوس فوق أنانية الذات المنغلقة، وجشع النفس »اللامنتمية»، وهي لمن يقرأها بلسم لجروح الروح الهائمة بلا بوصلة، ودواء للهزال الأخلاقي المصاب به وجدان آلاف من الفتيان والشبان الذين حرمهم الفضاء من دفء الوصال مع الأوطان، فلماذا لا ندرس تلك الملاحم الوطنية الخلابة الرائعة لأبنائنا ضمن المناهج التعليمية؟، ما الذي يحول دون ذلك، ونحن أحوج ما نكون لعلاج غياب قيمة الانتماء، وحالة انتكاسة الولاء للأرض الحاضنة، والجذور الأصلية الحانية؟، وملحمة »الحفار» للراحل الفذ صالح مرسي مجرد مثال، وهناك العديد من الملاحم الجديرة بأن يدرسها طلابنا في مراحل التعليم المختلفة كرأفت الهجان، و»دموع في عيون وقحة»، و»الصعود إلي الهاوية»، وكلها لصالح مرسي، وملحمة »جاسوس في البحر الأحمر» للكاتب ماهر عبد الحميد، فضلا عن عشرات الملاحم الأخري التي تجسد بطولات الجيش المصري في معارك الشرف والكرامة منذ عام 1948 إلي سنة 1973، وكلها يستحق أن يدرسه أبناؤنا إنقاذا لأذهانهم ولوجدانهم ولذكراتهم من التشويه والتشويش والمحو، فملحمة وطنية تنسجها الأحداث المثيرة والوقائع الشيقة بأقلام موهوبة تغني عن ألف درس في التربية القومية، وتحقق أثرا أعظم من مئات الخطب الحماسية، وفي السطور التالية طرحنا الاقتراح علي ثلاثة من المتخصصين فجاء ردهم مشجعا جدا. ففي البداية تقول الأديبة الكبيرة سكينة فؤاد: هذه الملاحم هي الجذور التي تثبت أقدام الشباب وتصنع الاعتزاز الوطني، وتؤكد علي الهوية، وتمنع اجتياح العقول بالأكاذيب والافتراءات التي تلتصق بالوطن، ثم نحن من أكثر الشعوب التي تمتلك ملاحم بطولية سواء كانت شعبية أو عسكرية، وللأسف لا نعطي هؤلاء الأبطال ما يستحقون ولا نستثمر هذا الرصيد الوطني في تربية أولادنا من أجل الحفاظ علي هويتنا، ومواجهة ما نراه من علامات سلبية بين الشباب تجاه الوطن، فتدريس الملاحم الوطنية ضرورة »وأضع تحتها مئات الخطوط» من أجل استعادة الهوية وتدارك ما تم من تشكيك في التاريخ والحضارة ومحاولة هدم الثقة بالنفس والاعتزاز الوطني ومواجهة هذا الزحف المؤلم لتزييف وعي هذا الجيل.وتواصل سكينة قائلة:علي أن يقوم بالكتابة خبراء ماهرون ومتمكنون من إبداع الكتابة، وكفانا مؤلفين في الشعر والنثر لا علاقة لهم بالشعر والنثر. أما الناقد الكبير د.محمد عبد المطلب، فيري أن الملاحم لدينا كثيرة جدا، ولابد من صياغة مادتها بلغة تناسب الأطفال وعقليتهم لكي يستوعبوا مافيها، وأعتقد أن بعض الشعراء والأدباء ومنهم الشاعر أحمد سويلم صنع ذلك في كثير من القصص التي كتبها للأطفال ومن قبله الشاعر أحمد شوقي قدم نصوصا كثيرة للأطفال استمد مادتها من بطولات عربية قديمة وهي الآن للأسف لا تدرس،وإذا أردنا ان نقدم دروسا في الانتماء لشبابنا فلابد أن نقدم نماذج مبسطة شيقة لكي نصل بها إلي وجدان أبنائنا ونحفز لديهم شعور الانتماء. وفي الختام يقول الخبير د.حسن شحاته أستاذ المناهج بتربية عين شمس: تعيش مصر سلسلة من الملاحم الوطنية التي تدعو إلي تنمية الوعي والشعور الوطنيين في النشء والشباب في مرحلة التكوين، لذلك لابد ان يجدوا من ييسر لهم ذلك، وتدريس الملاحم يصنع الرجال ويغرس الوطنية، لذا أري ضرورة مسرحة الملاحم في المناهج، وتحويلها إلي مواقف حية تقدم أمام الطلاب حتي تتوافر فيها الصورة والصوت، فتصبح حياة. كما أري أن مسرح مصر» الذي له تأثير علي الشباب يجب ان يتبني تقديم هذه الملاحم لكي تصل إلي الشباب بشكل أسرع ويتعلم منها الحكمة واللغة الجميلة والقيم الأخلاقية والمعاني الوطنية والعربية الأصيلة.