في بعض الأحيان.. وخاصة في لحظات الصفاء القليلة التي نلتمسها أو نحاول اقتناصها كلما أتيحت لنا فرصة الهرب من المشاغل المزمنة والمشاكل الملتهبة، التي تتزاحم علي رءوسنا وتقتحم عقولنا في كل لحظة طوال الليل والنهار، متدفقة في موجات تتلاطم متسارعة من كل حدب وصوب،...، حاملة معها أنباء تثير القلق وتجلب الغم، عن الدم المسفوح في سوريا والانفجارات في العراق والصدامات في اليمن والصراعات في ليبيا، والنذالة والخيانة من حكام عرب صغار، يعبثون بكل الجهالة والوضاعة وقصور العقل وقصر القامة وسوء القصد والطوية بالأمن القومي العربي، وأمن وأمان أشقائهم في مصر والخليج،..، بالإضافة ايضا إلي الأنباء الخاصة بالعنف العدواني الغاشم والممنهج، الذي تمارسه سلطة الاحتلال الاسرائيلي في المسجد الأقصي وضد أهلنا في القدس. في هذه اللحظات القليلة التي نختلسها من عمر الزمن لتتيح لنا خلوة مع النفس، نتفكر فيها بأحوال الدنيا وتصرفات البشر، ونترك انفسنا خلالها لتيارات الفكر المتلاطمة والمتلاحقة، تحملنا معها إلي حيث مواطن التأمل في هؤلاء الذين جمعتنا بهم المقادير عبر مشوار الحياة، بكل ما فيها من منحنيات ومطبات وتقلبات،..، وفي هذه اللحظات عادة ما ترسو قواربنا محمولة بتيارات الفكر علي مرفأ الصداقة وشاطئ الأصدقاء باعتبارهم الأكثر قربا للنفس والأكثر ائتلافا مع الروح. وفي كل مرة تتاح لي فيها هذه الخلوة تقفز إلي الذهن في نهاية طوافه صورة أحد الأصدقاء الأعزاء والمتفرد في خصاله وصفاته، بما يحتويه في ذاته من ثراء بالغ في المشاعر الإنسانية الراقية، وفيض وافر من الود والمحبة لكل معارفه وأصدقائه، وتدفق دائم بالعطاء والمنح للجميع دونما تردد أو تمهل، ودون سؤال أو بحث فيما إذا كان هذا الشخص الذي يمنحه أو يعطيه مستحقا أو غير مستحق،...، هكذا هو تيار جارف من العطاء متدفق بلا انقطاع. قيمة العدالة صديقي الذي اتحدث عنه إليكم اليوم هو »صالح» هذا هو اسمه الذي له من معناه ومدلوله حجم ومساحة كبيران، وهو من أقول لنفسي ولأصدقائنا المشتركين عنه، إنه لو كان بيننا علي أرض الواقع الذي نعيش فيه كائن بشري، يمكن أن يكون تعبيرا صحيحا ونموذجا حيا تتجسد فيه صفات الخير والصلاح، وتشع منه روح التسامح وطيبة القلب ويتدفق منه الإحساس الرائع بسلامة الطوية والسلام مع النفس، لكان هذا هو صديقنا صالح، الذي أنعم الله عليه بكل هذه الصفات التي نغبطه عليها دون حسد علي الإطلاق،..، بل ونتمني من قلوبنا جميعا أن يزيده الله صلاحا علي صلاح. وصديقنا الصالح هذا ننظر اليه جميعا علي أنه نعمة بين البشر وهدية من السماء لنا جميعا، لايجود بها الزمان إلا بحساب مقدور بلا إفراط ودون تقتير ايضا،... وقد سألت صديقنا صالح في اللقاء الذي جمعنا ببقية الأصدقاء منذ أيام، عن أكثر القيم الإنسانية سموا في رأيه وتصوره،..، فقال علي الفور ودون أدني تردد وملامح ابتسامة ترتسم علي وجهه الهادئ »أري أنها العدالة،..، قالها وهو يحدق في وجوهنا جميعا متفرسا ومتأملا وباحثا في ذات الوقت عن مردود ما قال سواء كان هذا المردود قبولا أو رفضا، أو حماسا أو حتي فتورا. وعندها سأله أحدنا هل يقصد العدالة في مفهومها العام كقيمة انسانية مطلقة، أم أنه يقصد نوعا خاصا وصورة محددة للعدالة؟! ،...، قال بحماس شديد وبريق عينيه يزداد تألقا وحدة،..، »نحن البشر علي اختلاف صنوفنا وأشكالنا وتعدد افكارنا ومعتقداتنا وتنوع قدراتنا ومكانتنا، وتفاوت مستوياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يجمعنا رباط مشترك، وهو تطلعنا الدائم لفكرة وقيمة العدالة، باعتبارها أرقي وأسمي ما يمكن أن يتحقق للبشر في حياتهم علي ايدي البشر انفسهم»، ثم صمت قليلا قبل ان يستطرد »وسنظل نحن البشر نرنو إلي هذه القيمة ونتمناها، يشدنا إليها حلمنا الدائم بعالم خال من الظلم والعسف والعدوان،..، عالم تسوده العدالة والمساواة بين الناس جميعا». منهج دولة لم يكن صديقنا »صالح» وهو يتحدث إلينا يرتدي ثوب المحاضر الذي يخبرنا بما لانعرفه..، بل كان يتحدث منطلقا من قاعدة مشتركة نقف عليها جميعا ونتفق فيها معه علي أن ما يقوله وما يوضحه هو بلورة لما نحن متوافقون عليه، وأنه مجرد صياغة مجمعة لما نحن متفقون بشأنه،..، ولذلك فقد واصل حديثه قائلا »تعرفون كما أعرف أن كل انسان منا سواء كان حاكما أو محكوما، غنيا أو فقيرا، قويا أو ضعيفا، يتطلع دائما بكل الشوق إلي العدالة كقيمة ممكنة التحقيق علي أرض الواقع، وكلنا دون استثناء سنظل نرنو إلي هذه القيمة مشدودين إليها باعتبارها حلمنا جميعا الذي نأمل أن يتحقق»،..، ثم أكمل قائلا: »وأدرك انكم تعلمون أنني لا اعني هنا بالعدالة حكم القضاء فقط، بالرغم من انه يمثل بالفعل أسمي صور العدالة في الفصل بين المتنازعين والمتقاضين، ولكني أقصد العدالة الشاملة والتي في شمولها تعني أسلوب حياة ومنهج دولة وإرادة مجتمع وسلوك أفراد». »العدالة التي أتحدث عنها هي تلك التي تساوي بين البشر في الحقوق والواجبات كلهم لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات دون تفرقة علي الإطلاق علي أساس الجنس أو اللون أو العقيدة أو الدين أو العرق». »والعدالة التي أعنيها هي تلك التي تعطي للكفاءة حقها وتعطي للمثيب حقه، وتوقع الجزاء والحساب علي المهمل والمسيء والمخطئ،..، وهي التي تعلي من قيمة العمل وتقدر المجتهد والمجيد، ولاتساوي بين الغافل الكسول واليقظ النشط» »وكما تعلمون فإن العدالة التي نرجوها جميعا هي ان يكون تقديرنا للناس علي أساس قيمتهم العلمية والأخلاقية والسلوكية وكفاءتهم العملية ومهارتهم المهنية، بغض النظر عن المعارف والأقارب والأنساب، وأن يحصل علي الوظيفة أو الشقة أو الأرض أو الفرصة من يستحقها بالفعل، وليس من هو ابن أو قريب أو نسيب لأصحاب المقام العالي،..، »هذه هي العدالة التي أقصدها.. وأعرف انها هي ذاتها التي تتطلعون اليها كواحدة من أكثر القيم الإنسانية سموا. الواقع.. والخيال بالقطع يستطيع الفنان أو الأديب التعبير عن الواقع بصور وأشكال ووسائل متعددة، لكنه في كل هذه الصور وتلك الاشكال لايستطيع مهما أوتي من مهارة أو مقدرة علي الرسم بالريشة أو الكلمات أن يعطي صورة مغايرة للواقع في مجملها وتفاصيلها،..، وهو بالقطع يستطيع أن يجمل الواقع بعض الشيء فيما يخطه بقلمه أو يرسمه بريشته، طبقا لرؤيته الخاصة وانعكاسات الواقع عليه، وفهمه ايضا لحدود هذا الواقع ودلالاته،..، لكنه ابدا لايستطيع أن يخلق واقعا آخر يخالف بالكلية هذا الذي يحيط به ويقف عليه وفيه، ويحاول رسمه أو الكتابة عنه،..، إلا اذا كشف وأعلن بوضوح انه يعبر عما يتمناه أو يتخيله أو يأمله،وأنه ينقل ما يتخيل إمكانية حدوثه. وفي هذا السياق ليس واردا علي الاطلاق، أن يدعي أحد أن الصورة في مصر وردية، وأننا نعيش الآن أزهي عصور الرخاء الاقتصادي، وحرية الرأي والتعبير، أو اننا نسبح في بحور الديمقراطية الكاملة بكل صورها وأشكالها،..، وأحسب أن من يدعي ذلك لن يصدقه أحد ولن يلتفت إلي ما يقوله أحد، نظرا لأنه يقول بغير الحقيقة، ويرسم صورة مخالفة للواقع،..، وهي صورة جميلة بالقطع ونحن نتمناها، ولكنها تبقي صورة تعبر عما نتمناه وما نريد أن يصبح عليه وأن يكون عليه بلدنا، ولكننا لم نصل إلي ذلك بعد. الصورة الحقيقية وإذا ما أردنا الصورة الحقيقية، دون ادعاء أو تجميل زائد، فلابد أن نقول بكل الوضوح والشفافية، بإننا رغم الأزمة الاقتصادية الحادة التي نعاني منها حاليا لأسباب ودواع كثيرة، إلا أن أحدا لايستطيع انكار ماتموج به مصر الآن وطوال الثلاثة أعوام الماضية من مظاهر وعوامل التغيير والإصلاح، علي جميع المحاور وفي كل الاتجاهات، بهدف الخروج من الأزمة والانطلاق للمستقبل، سعيا لتحقيق ماتطمح إليه كدولة حديثة ديمقراطية تقوم علي سيادة القانون والعدالة الاجتماعية. وفي هذا يصبح القول بإن هناك تغييرا حقيقيا وملموسا في مصر الآن إلي الأفضل هو قول صادق ومؤكد وصورة حقيقية، وليس مجرد كلمات جوفاء تحاول الايحاء بغير ما هو موجود وبخلاف ما هو قائم علي أرض الواقع، كما أنها جملة صادقة وليست مجرد محاولة لتجميل الواقع أو تحسين الصورة. ولعلي لا أبالغ إذا ماقلت ان ما نشاهده ونلمسه بالفعل علي أرض الواقع الآن، يصعب علي أي متابع منصف أو موضوعي تجاهله أو غض الطرف عنه، خاصة في ظل الحجم الكبير من المشروعات التي يجري تنفيذها، بطول وعرض البلاد سواء في صعيد مصر أو الدلتا أو غيرها. والمتابع لهذا الذي يجري علي الأرض المصرية الآن بالفعل، يدرك أن هناك مساعي جادة للإصلاح الشامل، الذي يقوم في جوهره ومضمونه علي أساس النهوض الشامل بمقومات الحياة الانسانية لجميع المواطنين ولجموع الشعب في مدن وقري ومحافظات مصر.