مرت أكثر من مائة يوم علي اندلاع ثورة يناير الشعبية المصرية . حققت معجزة لأول مرة في تاريخ مصر، وهو أن يتمكن الشعب من فرض كلمته وإسقاط حاكمه وأسرته. لكن الثورة لم تقم بديلا للنظام الحاكم. ولم تستقر أوضاعها بعد. وظهرت مع معجزة الثورة مخاطر كثيرة علي استقرار مصر ومستقبلها. لذا فمن الضروري أن نشارك معا في مراجعة مستمرة لأحداث الثورة والمجتمع . لأن الأحداث تتوالي وتتسارع . لا يجب ترك الأحداث تقود الناس. يجب أن يكون لدينا عقل منظم يقود الأحداث . كتبت خلال السنوات الخمس الأخيرة أكثر من مرة أن من أهم مشاكل مصر أنها دولة بلا عقل . وأقصد أنها بلا عقل علمي مؤسسي يعد استراتيجيات ويوجه سياسات . ظلت مصر هكذا منذ قيام ثورة يوليو 1952 . كان حكم الفرد هو الذي يوجه السياسات بدون استراتيجيات . فقدان مصر لهذا العقل أصابها بأضرار فادحة بعد الثورة لأنه لم يعد لها فرد حاكم ولا عقل علمي مؤسسي . وأصبحنا عرضة لاجتهادات شخصية وردود أفعال مؤقتة . هذا وضع لا يجب أن يستمر طويلا لأن نتائجه فادحة. لنحاول قراءة مشاهد من الواقع لكي نستفيد من الأخطاء ونقود الأحداث بعقل كي لا تضيع منا الثورة، وتضيع دماء شهدائها هدرا. أدت الثورة الشعبية ضمن ما أدت إلي سجن ومحاكمة مسئولين في العهد السابق، ولا استخدم مصطلح " رموز " لأنه ليس كل المسئولين المحبوسين رموزا. فالرمز في اللغة العربية هو الإشارة . بمعني أن الرمز يشير إلي المرموز إليه. لذلك ففي السجن رموز وغير رموز ممن عملوا مع النظام. ومع ذلك هناك مسئولون آخرون من العهد السابق ما زالوا في السلطة. هناك وزراء ومحافظون قدامي من وزارة الدكتور أحمد نظيف ما زالوا وزراء ومحافظين في حكومة الدكتور عصام شرف . هناك وزراء جدد في وزارة شرف كانوا مسئولين في وزارات حكومة نظيف وأعضاء في لجنة السياسات وأمانات الحزب الوطني . هنا أريد أن أحدد معني المسئولية . لأنه لا يمكن أن نستبعد كل المسئولين في الدولة لأنهم عملوا في مؤسساتها في العهد السابق . لاحظوا أنني لا استخدم مصطلح " النظام السابق " لسببين : الأول أن النظام لم يسقط أو لم يتغير تماما من وجهة نظري، والثاني أنه ليس لدينا حاليا نظام جديد. لذلك أري أن الأكثر دقة أن نتحدث عن عهد وليس عن نظام . أتصور أن المسئولين الذين يجب استبعادهم من "العهد" الحالي هم تحديدا من كانوا أعضاء في لجنة السياسات وفي أمانات الحزب الوطني المنحل . وليس كل أعضاء الحزب الوطني علي إطلاقهم . لأنه كان في الحزب رسميا حوالي 4 ملايين عضو. ولا يمكن استبعاد الملايين من الحياة السياسية والعامة . ولكن يجب استبعاد الفاعلين في مؤامرة التوريث تحديدا. واستبعاد الفاعلين في إفساد الحياة السياسية والمشاركين في الفساد المالي بالطبع . لذلك تصبح الدهشة واجبة من أحداث وحالات عدة جرت في واقع ما بعد الثورة تتناقض صراحة مع ما قامت من أجله هذه الثورة . حالات عدة نراها جهارا نهارا ولا نتحدث عنها وكأننا لا نراها. لقد اندهشت علي سبيل المثال عندما علمت أن عددا من وزراء حكومة أحمد شفيق الجدد رشحهم " رموز " النظام . لكن وبعد إقالة حكومة أحمد شفيق بقي وزراء منها كانوا قد بقوا قبلا من حكومة أحمد نظيف . هناك علي سبيل المثال وزير في " العهد الجديد " تحوط شبهات بتزوير انتخابات مجلس الشعب في دائرته لصالحه واستغلاله منصبه وإمكانيات وزارته في الانتخابات . طبعا يمكن الرد بأنه لم يثبت قانونا أنه حدث تزوير لصالحه. التزوير هنا ليس فقط في تسويد بطاقات التصويت، أو في إجراءات عد الأصوات، وإنما في عدة وسائل تسبق التصويت نفسه. ولدينا أكبر خبراء في العالم في وسائل التزوير بحكم الخبرة الطويلة لهم في مصر عبر عشرات السنين. الأمر لا يتعلق فقط بوزراء قدامي . بل هناك مسئولون كبار في وزارات الدولة كانوا أعضاء في لجنة السياسات وفي أمانات الحزب الوطني . وهناك علي صفحات الفيس بوك صور لهم مع رئيس لجنة السياسات وفي اجتماعات الأمانات. تصبح الدهشة واجبة أيضا من تعيين وزير كرس إمكانيات مركزه لصالح الحزب الوطني في الانتخابات الأخيرة وبتعليمات مباشرة من أحمد عز وكأنه رئيسه في الحكومة كما جاء في مستندات نشرتها الصحف . بالطبع كانت الحكومة كلها مكرسة لخدمة الحزب الوطني. لكن هناك عشرات من الخبراء والسياسيين الآخرين الذين يصلحون لأي وزارة . هناك من الوزراء الجدد وكبار المسئولين من كانوا مقربين من "رموز" العهد السابق ودانوا لهم بعد أن شملوهم بالرعاية والعناية. أو كانوا أعضاء في لجنة السياسات أو أمانات الحزب الوطني في القاهرة تحديدا. انتشرت ظاهرة " الغسيل السياسي "، مثل غسيل الأموال، بعد ثورة 25 يناير الشعبية بين هؤلاء وغيرهم مثل كتاب وصحفيين وإعلاميين . أخذ هذا الغسيل مظاهر متنوعة. فمنهم من عمل علي المغالاة في نشاطات متعلقة بثورة 25 يناير والمشاركة في احتفالات عامة من أجلها . ومنهم من غالي في الهجوم علي من أطلقوا عليهم " المتحولون "، وهم من كانوا مادحين وأصبحوا لاعنين جهارا نهارا، وكأنه لم يكن منهم . الصورة العامة علي قمة الدولة مختلطة، غامضة، تتداخل فيها ولاءات عدة وانتماءات مختلفة، يتعايش فيها القديم والجديد والبين بين . أدت هذه الصورة إلي ما نعيشه من قرارات مرتجلة وأفعال متناقضة . وهذا وضع لا علاقة له بأية ثورة.