الفساد له وجوه متعددة، ليس مقصورا علي ظلم الناس وقتل الابرياء بلا ذنب جنوه، أو نهب ثروات الشعب أو في احتكار أو توريث الحكم والسلطة أو في انتشار الرشوة والمحسوبية وشيوع البلطجة وترويع الآمنين العزل في حياتهم، أو التنابذ بالشتائم أو بالتطاول علي شيوخ العلماء وكبار المفكرين. إنما الفساد الأكبر، هو فساد العلم وسوء التربية، فإذا تفشت هاتان الآفتان في حياة الشعب، أصابت أعز ما تملكه الأمة، ثروتها العلمية والبشرية، فتصاب بالعقم العلمي وتصبح عنوانا للتخلف، وصيدا ثمينا وسهلا لكل طامع في استغلالها أو استعمارها. وقد اصاب الاستاذ محمد النجار رئيس نيابة الاموال العامة كبد الحقيقة عندما قال في مرافعته في القضية المنظورة أمام محكمة جنايات القاهرة المتهم فيها أحمد المغربي وزير الاسكان الاسبق مع آخرين بتهمة التربح والتزوير.. فقد أكد رئيس النيابة »ان المغربي ليس مهندسا إنما حاصل علي مؤهل متوسط، وانه في زمن الفساد ليس غريبا ان يقود العمل السياسي في مصر طبال أو يكون لدينا وزيرة بالإعدادية، أو وزير نقل بدبلوم نسيج.. وكأن مصر قد عقمت ليس بها كفاءات علمية راقية، وليس لديها أصحاب تجارب وخبرات عملية راقية علي أرقي مستوي«!! هذه فقرة من مرافعة الاستاذ محمد النجار رئيس النيابة.. لقد أصاب الهدف، مؤكدين انه في زمن الفساد يصبح كل أمر مستباحا ومثار شك وريبة وهذا أخطر ما يصيب شعبا في حاضره ومستقبله حيث تنعدم الثقة بين الناس فلا تعرف ولا تفرق بين الصادق في القول والكاذب. ان قضية المغربي وأترك الجانب الجنائي من القضية للقضاء العادل اما انتحال الشهادات، فهذا الجانب يقودنا الي الحديث عن التعليم.. فإذا اردت ان تعرف موقع أي أمة من التقدم أو التخلف، إبحث عن نظامها التعليمي، فكل فئات المجتمع هم نتاج المدرسة والجامعة، فإذا كانت تسير علي نظم تعليمية مستقرة، ومناهج متطورة تستجيب للتحديث، وقيم راقية، واضحة، وإمكانيات مادية وبشرية متوافرة، فالعائد يقينا تخريج مواطن قد أُحسن اعداده وتأهيله في التخصصات المختلفة، قادر علي الابداع، نافع لنفسه ووطنه، هذا المواطن يعي ما له من حقوق، فيحرص عليها، ولا يفرط فيها ويعرف واجباته فيؤديها كاملة، بلا كسل أو تراخ أو اهمال، وقبل كل هذا وبعده لا يسرق حقا ليس من حقه. وفي غياب التعليم الجيد والتربية السليمة واختفاء القدوة ينتشر النصب والاحتيال ويضيع العدل بين الناس، ويصبح المجتمع ولو ملك مال قارون في مهب الرياح.. لذلك تحرص الحكومات الناجحة، المقدرة لمسئوليتها الاجتماعية في بناء المواطن علي أسس سليمة، ان توكل أمر التعليم والتربية لاساتذة تم انتقاؤهم بدقة، أصحاب عقيدة وهدف ورسالة، سيأتي المتخرجون في المدرسة والجامعة علي شاكلة المعلم والمربي، علما نافعا وعملا مفيدا وسلوكا كريما، ويحق للمجتمع ان يفخر ويعتز بأن له مدرسة وجامعة لها قيم يحترمها ويقدرها الجميع، ولو حدث كل ذلك لاستقامت الأمور في جميع قطاعات الانتاج الصناعي والزراعي والخدمات، أما إذا وسد الأمر لغير أهله فلن يجني المجتمع إلا فسادا وانحلالا وقديما قيل: ماذا تنتظر من انبغ تلميذ تلقي العلم علي يد أفسد استاذ إلا الخراب والدمار.. وما تعاني منه مصر اليوم، من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومن تفشي البطالة، ومن انفلات أمني، وانتشار الالفاظ البذيئة التي تقال جهرا، وبلا حياء، بل باستخفاف ومباهاة، هو انعكاس طبيعي لانهيار التربية والتعليم، الذي أفرز نوعيات رديئة من حكام فاسدين، ولصوص، أدمنوا النهب وتهريب الأموال إلي الخارج، وقتل الأبرياء المطالبين بالحرية، والحياة الكريمة.. ولعل أسوأ ما يواجه المجتمع المصري في هذه الايام، هو انتشار ظاهرة شراء العلم في سوق يعرف بالدروس الخصوصية في المدرسة والجامعة، بصورة تهدد حرمة العلم وقدسيته، فالسلوك المنحرف لا يقتصر علي صاحبه فقط، بل يمتد اثره إلي المجتمع.. ولاشك ان الذين يسيئون للتعليم ويهبطون بشرف الاستاذية، هم المتسلقون الذين يحصلون علي الدرجات العلمية العليا بأساليب ملتوية، وهم غير مؤهلين لها ذهنيا، حتي أصبحت معظم رسائل الماجستير والدكتوراه نقلا من ابحاث الآخرين، والنتيجة حياة علمية متدنية.. ومن الظواهر التي لم يكن لها وجود في مصر، ظاهرة الاعلان عن حصول البعض من ذوي المال، الذي لا يعرف أحد مصدره وأساليب جمعه، علي الدكتوراه من جامعات أجنبية، وفي أسابيع معدودة، وتنهال التهاني، وكثير من الناس يعرفون أن هذا ادعاء علي غير الحقيقة، فهو لم يتحصل من التعليم إلا علي الثانوية العامة، وبعضهم دون ذلك، وبلا خجل يكتب اسمه مسبوقا بلقب دكتور، وقد تخصص بعض الذين سبق لهم الدراسة في جامعات غربية أو شرقية، وهي جامعات دون المستوي العلمي اللائق، في القيام بدور السمسرة مع هذه الجامعات التي أدمنت بيع الدكتوراه الوهمية .. ويتواصل الحديث .