سبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. . جمعتني صلة مباشرة ببعض من نزلاء سجن طرة من كبار المسئولين والوزراء المحبوسين علي ذمة التحقيقات حاليا. لا أستطيع أن أصف هذه الصلة مع أي منهم بأنها كانت صداقة. فلقد تعلمت من الحياة أنه، علي الأقل في مصر، لا توجد صداقة بين رئيس ومرءوس. وقد كانوا جميعا في مقام رؤسائي. أقرب دليل علي ذلك علاقتي بوزير الثقافة الأسبق الفنان فاروق حسني. كنت من أصدقائه قبل توليه الوزارة. لكني فقدت هذه الصداقة بعد عامين تقريبا من توليه، وهذا رقم قياسي كبير. أصبحت العلاقة بيننا هي علاقة رئيس بمرءوس حتي خرج من الوزارة بعد أطول فترة قضاها وزير للثقافة في تاريخ مصر كله. وهذا حديث آخر يطول. عملي في وزارة الثقافة هو السبب في تعرفي علي كل من عرفتهم من نزلاء سجن طرة باستثناء واحد هو أول من عرفته منهم وهو السيد / صفوت الشريف. ذلك لأنني كنت صحفيا شابا وكان هو رئيس هيئة الاستعلامات. لا أتذكر تحديدا تاريخ أول لقاء لي به، لكنه كان في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. أذكر الوقت والمكان. كنت مندوبا لجريدة الأخبار في وزارة الثقافة والإعلام. وكانت هيئة الاستعلامات تتبع هذه الوزارة. كان الوقت ظهرا. دلفت من ممر سينما راديو بشارع طلعت حرب واتجهت يسارا، وصعدت إلي الطابق الذي فيه مكتب رئيس الهيئة. كانت الرقابة علي المصنفات الفنية في المبني نفسه. قابلني " صفوت بك " بترحاب وبساطة. وكأنه يعرفني من قبل، وكأنني صحفي كبير. تعلمت فيما بعد أن هذا السلوك من أساليب العلاقات العامة لكسب ود أو محبة أو ثقة الآخرين. كان الشريف أستاذا في هذا الأسلوب. كنت ألتقي به أحيانا لظروف العمل. لكنني اذكر جيدا لقاءين آخرين معه. لقاء سنة 1995 أثناء افتتاح مكتبة القاهرة الكبري في الزمالك، وقد جنبها حظها الجيد أن لا يطلقوا عليها مكتبة مبارك. كنا نقف في حديقة المكتبة : السيدة سوزان مبارك وأنيس منصور وصفوت الشريف وفاروق حسني وأنا. لا أذكر من الذي اقترح أن أقوم بتقديم برنامج تلفزيوني عن الكتب أو القراءة. حبذت السيدة سوزان مبارك هذه الفكرة. فعاجلني السيد صفوت الشريف، وكان وزيرا للإعلام وهو أيضا أطول من قضي زمنا في هذه الوزارة في تاريخ مصر الحديث، بطلب أن أزوره في مكتبه في أقرب وقت للاتفاق علي التفاصيل وتنفيذ المقترح. لكنني لم أعده ولم أذهب. فلم يكن في تفكيري يوما ما أن أكون مذيعا أو مقدما لبرامج في التلفزيون. فالكتابة هي مملكتي. أما اللقاء الأخير فكان في مجلس الشوري عام 2008 علي ما أذكر. كان " صفوت بك " رئيسا للمجلس. ذهبت لحضور مناقشة مشروع قانون التنسيق الحضاري. التقيت به في الطرقة وهو في طريقه إلي مكتبه. فأخذني بالحضن وسلم بحرارة، لكنه لم يدعُني لدخول مكتبه أو شرب حاجة ساخنة أو باردة! ثاني من التقيت بهم من نزلاء طرة هو الدكتور زكريا عزمي الرئيس السابق لديوان رئيس الجمهورية. كنت مسئولا عن كثير من افتتاحات مشروعات وزارة الثقافة خلال السنوات الإحدي عشرة الأولي من تولي فاروق حسني للوزارة. أي من أكتوبر 1987 وحتي نهاية 1998. كنت خلال هذه الفترة مستشارا للوزير ثم مستشارا ومديرا لصندوق التنمية الثقافية. كان عملي يقتضي أحيانا أن اذهب إلي قصر عابدين الرئاسي لأعرض أسماء المدعوين للافتتاحات التي يحضرها رئيس الجمهورية علي كبير أمناء الرئاسة. ذات مرة أخبرني كبير الأمناء أن الدكتور زكريا يريد رؤيتي. قادني أحدهم إلي مكتب " الدكتور " كما كانوا يطلقون عليه بالدور الثاني من القصر. فوجئت. لم يكن مكتبا بالصورة المعتادة. كان صالة كبيرة مستطيلة، تتوسطها منضدة كبيرة. كان الدكتور يجلس علي رأس المنضدة. بادرني قائلا : " هو أنت سمير غريب ؟ ". ولم أفاجأ بالسؤال. ثم عرضت عليه القائمة المقترحة بالمدعوين. لا أذكر الآن مناسبة الدعوة. فأخذ الدكتور يشطب بقلمه علي بعض الأسماء بدون تفسير. تعجبت، مع نفسي، من شطب أسماء بعينها. كنت أري الدكتور في بعض المناسبات ولم يتجاوز حديثي معه التحية. لم يرد ذكره في مقالاتي سوي مرة واحدة في مقالتي هنا المنشورة مع بداية هذا العام، وكانت بعنوان " بعد نهاية 2010 المصريون ليسوا بخير ". انتقدت فيها غياب المعارضة من مجلس الشعب بعد انتخاباته الأخيرة وممارسة زكريا عزمي دور المعارضة عندما هاجم وزير الصحة الأسبق الدكتور حاتم الجبلي. كثيرا ما بدا الدكتور زكريا في ثياب المعارضة في المجلس مما أثار دهشة كثير من الكتاب وأنا منهم. إذ كيف لأحد أكبر أركان النظام أن يعارض حكومة النظام في مجلس الشعب ؟ ولماذا لا يحقق ما يطالب به عمليا عن طريق مركزه واتصالاته مع الوزراء ورئيسهم، بدلا من الحديث عنه في المجلس؟ أذكر أن هذه الدهشة لم تكن تصيب الكتاب فقط. بل كانت أيضا تصيب بعض الوزراء الذين هاجمهم الدكتور زكريا في المجلس. وقد أسر لي أحد هؤلاء الوزراء بأن زكريا يهاجمه لغيرته الشديدة منه بسبب قربه ( أي الوزير ) من الرئيس السابق وحرمه. وكانت العلاقة بين الدكتور زكريا، الطويلة، وبين هذا الوزير من العلاقات الغريبة، وليست الشاذة! ينطبق عليها تماما المثل الشعبي " في الوش مراية وفي القفا سلاية ". ولهذا حديث آخر يطول.