...فإذا به يفاجئنا وبهدوئه المعهود بالخروج عن النص وبأي نص.. فقد فجر قنبلة ! احوالنا يصعب التنبؤ بعواقبها انما من التاريخ ندرك أن مشاعر الجماهير متقلبة ولا يؤمن لها، وقد تنقلب مع حدث عابر في توقيت معين من النقيض للنقيض.. التجمعات الكبيرة جدا من حيث العدد عرضة لانفلات عيارها فيكون لها جموح وأي جموح. في المرحلة المقبلة تواجهنا عدة تحديات تتصدر في رأيي الحالة الاقتصادية للبلاد وهي أهم ما يجب أن نعني به في هذه المرحلة جنبا الي جنب تنظيم الصفوف لارساء قواعد الحكم... الاقتصاد هو الأهم والاخطر مما نحن مشغولون به منغمسون فيه حاليا، فالملاحظ أن الاهتمام الاول والغلبة هي للطنطنة السياسية خصوصا من الاحزاب التي علي الساحة وما أشبه، فما تزال العبارات الرنانة هي التي تتردد وتسود.. الديموقراطية التعددية المساءلة السياسية النظام السياسي برلماني ام رئاسي الانتخاب بالقائمة ام بالفرد، كلها عملات صعبة ولكنها لا تصرف، من بنوك الحياة اليومية للسواد الاعظم من الشعب... اين الاهتمام بالحياة المعيشية اليومية للكادحين؟ هذا هو اقتصادهم وهذه هي حياتهم، وللشاعر الألماني بريخت مسرحية ساخرة عميقة المغزي يعرض فيها لما يمكن ان يوصف "بأخلاقيات المعدة".. بمعني الطعام أولا ثم القيم بعده وليس العكس، فلا تطلب من جائع ان يلتزم بأخلاقيات وقيم قبل ان تطعمه أولا... وفي في أمثالنا العربية: الجوع كافر.. وعلي ابن أبي طالب هو القائل لو الفقر رجلا لقتلته.. وهذه الثورة لن تكتمل كما نريدها ولن يتحقق الحلم، لو تغاضينا عن هذه الحقيقة والآن والا لن نصل الي ديموقراطية ليبرالية مدنية عن طريق صندوق الانتخاب.. سيفوز التيار الآخر.. فالكادحون لا يفرق معهم كثيرا ان يحكموا حكما دكتاتوريا أم ديموقراطيا، والتحاقهم بالثورة جاء من حيث الامل في حياة أفضل قبل أي شيء آخر. ! انما المشكلة امامنا هي كما يقول خبراء الاقتصاد أن التنمية تستغرق الوقت الاطول، بينما التحول للديموقراطية هوالأسرع والأسهل... ولكن لابد ويتذكر كل من يقلقه صعود جماعة الاخوان في الشهرين الاخيرين، رغم أنهم ما كانوا بالثورة مبادرين، أن أهم اسباب روابطهم وتغلغلهم في السنين الماضية يعود الي تقديمهم بعض ما قصرت فيه الحكومات السابقة من خدمات اجتماعية.. موضوع البطالة وايجاد الوظائف واتاحة العلاج المناسب والحد من جنون أسعار الطعام هو الاهم لدي جموع الناس، ولو بقينا في الطنطنة السياسية وسرقنا الوقت فلنودع أحلامنا وأمانينا ونقول عليها السلام! الكرامة لابد وتكون محفوظة بعض ما يحدث يبدو بلا تفكير ولا روية، مثلا حل الحزب الوطني بحكم المحكمة قد يكون حدثا ثوريا له قبول شعبي عريض، ولكن التفكير بتأن يؤدي الي أن الاجدي كان تطبيق العزل السياسي علي كل من أفسد الحياة السياسية من اعضاء الحزب، فلا يمكن أن يكون كل أعضائه جميعهم فاسدين، فأين الحكمة في حل حزب يمكن اعادة تشكيله باسم جديد ويدخله الفاسدون مع غير الفاسدين وهذا ما سيحدث فعلا.. وما الذي يعود علي مصير المعركة الحقيقية التي تخوضها البلاد أمام تيار الاسلاميين، من تقويض حزب مدني كان قائما وجاهز التشكيل بكوادره، ويمثل إضافة الي التيار الليبرالي الذي نستهدف ان نقويه بكل سبيل... نموذج آخر: المتابع لمشاعر الجماهير أدرك أن الشعب لم يطمئن تماما للنوايا العسكرية الا عندما سمح باعتقال الرئيس السابق مبارك والتحقيق معه ومع عائلته فيما هو منسوب اليهم من اتهامات وايداع نجليه سجن المزرعة بطرة .. وكأن انضمام الجيش الي الثورة قلبا وقالبا الي الشعب لم يكن فصل الختام في نجاح الثورة أو وأدها في مهدها... ثم حالة الانشغال بالماضي وتصفية الحسابات والتشفي والانتقام والبهدلة واهانة الكرامة لا تليق ومتابعة ذلك كله أصبح يستغرقنا بنحو ممجوج وغير مقبول، غير انه طبع غريب علينا كشعب حاز بثورته علي الجائزة العالمية للابهار.. أحسب اننا صرنا جد مختلفين كشعب تجاه الاحداث وردود الافعال، نتفق علي أهداف وعندما تتحقق نختلف علي التفاصيل وتتراوح بيننا ردود الافعال، كل حسب تركيبته الشخصية وبناء علي ما كبر عليه وانغرس فيه، معظمنا تربي علي قيم مغايرة وياما قيل لنا عيب أي عيب ان تضرب من وقع، اضربه في عنفوانه لو استطعت والا عار عليك لو سقط واستسلم ثم أقدمت... بيننا من يجد في الانتقام بغياه ويتطلع او يتلمظ انتظارا للعقاب، وانما منا أيضا من يحس بلسعة صدر وضيق لا يطيق مشهد عزيز قوم ذل أيا كان.. ولا أتحرج من الاجهار بذلك فلم استفيد من النظام السابق ولا من غيره بأي شيء.. ولو لرأيي قيمة لطلبت ان نعفي الرئيس السابق من المحاكمة، وكفي ما حققته الثورة وكان ابعد من الاحلام، ولن نحقق مجدا ببهدلة وإذلال من حكمنا من كان رئيسنا ورمزا للبلاد مدة طويلة جدا .. ليكن محجوزا بنحو كريم في مكان ما، او نتركه يغادر البلاد... هذا شعوري وقد لا يوافقني عليه الكثيرون ولكني واثقة أن من يشاركونني هذا الرأي ربما أكثر ولا كانوا منتفعين ولا من الواصلين... ربما لهذا بهر العالم بثورة سلمية سلمية - نظيفة وناصعة ولم يعرف لها في التاريخ مثيل وقالوا المصريون متحضرون، لنكن كذلك للنهاية والعفو عند المقدرة من شيم الكرام. انت عند قولك يا ريس..؟! لنتخفف قليلا من وقع الحاضر ولاحكي لكم هذه الواقعة النادرة التي لابد ويذكرها كل من شارك في ذلك الاجتماع المهيب... في يوم ما عام 1988 كانت دار اخبار اليوم تفتتح المطبعة الجديدة والرئيس مبارك في مستهل المدة الثانية من الحكم وقرر المجيء للمناسبة... أستاذنا موسي صبري رحمه الله كان رئيسا لمجلس الادارة ورئيسا لتحرير الاخبار اليومية، وقد اختار يومها علي ما أذكر نحو15 من مختلف اجيال الصحفيين للمشاركة في حضور الاجتماع مع الرئيس.. اقترح كل منا السؤال الذي سيوجهه الي الرئيس فالاستاذ موسي كان يعرف تحديدا ما سيقوله كل منا بالنص... تحول شارع الصحافة الي شانزليزيه، وجاء الرئيس وتفقد المبني الجديد والمطابع، ثم جلس علي رأس المائدة الطويلة وجلسنا جميعا حولها ثم بدأ (الكاست) بلغة السينما وتوالت الأسئلة تماما وفق النص، الي ان بلغ دور زميلنا المغفور له اسماعيل يونس وكان صحفيا بامتياز وخفيف الروح و(طاقق) أحيانا بمعني مندفع رغم الوداعة والسماحة علي الوجه، فاذا به يفاجئنا وبهدوئه المعهود بالخروج عن النص.. وبأي نص فقد فجر قنبلة ! قال: " يا ريس انت قلت في أول ما مسكت الحكم انك لن تستمر لغير مدتين بس.. انت لسة عند قولك ؟! " يا نهار يا نهار.. وربي لو دب دبوس علي الأرض لدوي لفرط السكون الذي لفنا جميعا، لم أملك نفسي من النظر في وجه الاستاذ موسي فوجدته مثل الليمونة المعصورة.. خرسنا جميعا في انتظار رد الرئيس ومر أقل من دقيقة سكون بدت كما لو كانت دهرا حتي انتبهنا الي صوت مبارك وهو يتفرس فينا يمينا ويسارا ثم قال الآتي : تفتكروا كده كلكم علي بعض اني مبسوط قوي من الرياسة دي ؟ يعني سعيد قوي ومرتاح.. ابدا انتم كلكم كده مبسوطين ومرتاحين عني بكثير... " ابتلعنا مؤقتا قلقنا بالقليل اطمأننا لنبرة السخرية أرحم من الغضب.. ثم ما لبث ان استطرد قائلا: "انتم كده علي بعضكم بتخرجوا وتتمشوا و تدوروا علي المحلات وتتفرجوا علي الفتارين وتدخلوا المحل من دول وتقلبوه من فوق لتحت وما تشتروش حاجة وتخرجوا وتلفوا.. فين انا من ده كله؟ " اختلسنا النظر سريعا الي بعضنا وابتلعنا قلقنا كله دفعة واحدة ولا أعرف ما دار في تلك اللحظات بداخل كل منا ولكن عند خروجنا من القاعة همسنا لبعضنا: انما الريس لم يرد علي السؤال ! اما المرحوم اسماعيل يونس فقد نال طريحته من الاستاذ موسي وان كنت أعرف ان الاستاذ موسي رحمه الله قد ضحك كثيرا علي هذا الموقف (بعدين خالص)... الديموقراطية بين أمريكا ومصر علي ذكر الأستاذ موسي ألف رحمة ونور، عندما جاء لواشنطون للعلاج وكان ذلك في عام 1993 وقد ترك مناصبه وتفرغ للكتابة.. وفي جناحه بالمستشفي اخذ يمازحني ساخرا من نوازع ديموقراطية نضحت علي رسائلي من واشنطون فقال لي ماذا عن الديموكراسي الامريكية ؟ في تلك الاثناء انتقل ارسال محطة التليفزيون الي كاليفورنيا حيث كان يجري افتتاح مكتبة الرئيس الأسبق ريجان بحضور أربعة رؤساء لأمريكا... في تلك اللحظة ظهر علي الشاشة خمسة رؤساء سابقون لأمريكا وسادسهم الذي كان حاليا... بدا ريجان وحوله نكسون وفورد وكارتر وبوش الأب وكلنتون فأسرعت قائلة: أهي دي الديموقراطية!.