قدمت تجربة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية يوم 19 مارس دروسا عميقة وبليغة وواضحة أتعشم أن تكون قد بلغت مَن يهمهم أمر هذا الوطن ومَن فوضهم الشعب. مصدر كل السلطات، لإدارة شئون البلاد في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة..وبناء عليه ، فإنني أرجو أن يتصرف الجميع بما يثبت استيعابهم واستفادتهم من هذه الدروس وفقا لمصالحنا العليا وبما يحقق كل القيم والمعاني الجميلة التي قامت ثورة 25 يناير من أجل تحقيقها ، ودفع نفر من أجمل وأنبل وأطهر شباب مصر ارواحهم ودماءهم ثمنا لها..أول هذه الدروس أن الثورة لم تغادر ميدان التحرير بعد ..فما يمكن تسميته يوتوبيا »المدينة الفاضلة« أو أخلاق ميدان التحرير التي تمثلت في روح عبقرية تفجرت وأظهرت أجمل وأروع ما في المصريين من وحدة وطنية وتعاون وتكاتف وتسامح وحب والتزام بالنظام والنظافة والسلوك المتحضر وانصهار الكل في واحد..تبخر تماما فيما يبدو بمجرد مغادرة الجماهير الميدان..تفرق رفاق الميدان فرحين بإنجازهم وفخورين بأنهم فجروا ثورة بلا زعيم أو أب وظنوا أن ذلك هو مكمن قوة ثورتهم وعبقريتها وتفردها..وأنا واحد ممن كانوا يعتقدون ذلك حتي بدأت أشهد وألمس بوادر أسوأ ما كنت أخشاه لهذه الثورة الرائعة ..وما كنت أخشاه بالتحديد هو مصير حركة كفاية التي كنتُ أحد مؤسيسها ولكني تركتها بعد عدة أشهر عندما تفرغ بعض زعمائها للفضائيات واستغنوا بتضخيم ذواتهم عن ترسيخ الحركة في الشارع وبين الجماهير.. فما كاد الثوار يغادرون الميدان حتي ظهرت كيانات وتنظيمات متعددة ، منها أحزاب تحت التأسيس، تحمل اسم الثورة وتتمسح فيها. الدرس الثاني هو الثورة المضادة التي نشطت فور نجاح الضغوط الشعبية في إقالة الفريق أحمد شفيق ، الرجل القوي الاخير في قمة نظام حسني مبارك ..نشطت جحافل أيتام النظام المنهار من فلول الحزب الوطني وجيوش البلطجية التي جندها أمن الدولة ولجنة السياسات لتزوير الانتخابات وقمع المظاهرات والتهيئة لمشروع التوريث، لترويع الناس بشكل منظم ومدروس حتي تتحول حياة المواطنين الي جحيم لا يطاق فيفضلون أن يستجيروا بنار نظام مبارك من رمضاء الفوضي والخراب الذي »جلبته ثورة 25 يناير« ..ويجب أن اسجل هنا أن نجاح حملة »نعم« للتعديلات الدستورية بهذا الفارق الكبير يرجع الي اللعب علي هذا الوتر الحساس للغاية عند المواطنين العاديين وغير المسيسين ..وقد حاورت بعضهم يوم الاستفتاء وقبله وبعده ..وكان الرد »هاقول نعم علشان الاستقرار والعودة للعمل لأننا اتبهدلنا وعاوزين نخلص قبل البلد ما تخرب«..وعزف علي هذا الوتر الحساس من وراء ستار بقايا الحزب الوطني ورجال اعماله.. أما المعسكر الاخر في حملة »نعم« للتعديلات الدستورية فقد كان معسكر الاسلاميين ..والغريب أن هذا المعسكر شهد اصطفافا كاشفا ومثيرا للكثير من التساؤلات لجميع ألوان الطيف الاسلامي من اخوان وسلفيين وجمعية شرعية وجهاد و"وسط" وراء هدف تمرير التعديلات..وذلك هو الدرس الثالث والاهم. كان غريبا أن يتحد الاخوان والاسلاميون في الهدف مع فلول الحزب الوطني ..ولكنها المصالح الضيقة أو إن شئت فهي كما قال البعض »الانتهازية السياسية«..إذ يبدو أن الاسلاميين اعتقدوا أن فرصتهم التاريخية جاءت للقفز علي كرسي السلطة استغلالا" للفراغ السياسي الذي خلفه السقوط المدوي لنظام سرطاني قمعي عتيد..والي هنا يتعين أن أقر واعترف بأن هذه أهداف وطموحات مشروعة لأي فصيل سياسي ، ويتعين أن نحترم رأي الاغلبية مهما كان عمق اختلافنا معه لأن ذلك هو جوهر الديمقراطية ..ولكن الخطأ بل الخطيئة التي ارتكبها هذا الفصيل هو إقحام الدين في السياسة واستغلال عواطف البسطاء الحريصين علي دينهم حرصهم علي الحياة ذاتها..وللاسف الشديد أنه علي الجانب الآخر وقع بعض رجال الدين المسيحي في نفس الخطأ أو الخطيئة عندما دعوا الاخوة المسيحيين للخروج يوم الاستفتاء لكي يقولوا »لا«.. وقد شاهدت بنفسي يوم الجمعة السابق ليوم الاستفتاء لافتات تحمل شعار الاخوان المسلمين معلقة في شارع التحرير بالدقي تحمل آيات قرآنية وتحض الناس علي أن يخرجوا ويقولوا »نعم«..وتلقيت اكثر من مكالمة من الاسكندرية ومن محافظات الوجه البحري والصعيد عن دور الجمعية الشرعية والسلفيين .. الذين أطلقوا أتباعهم في القري والحواري والعشوائيات ليقولوا للمسلمين البسطاء اذهبوا الي لجان الاستفتاء فورا وقولوا »نعم لإنقاذ الاسلام والمادة الثانية من الدستور حتي لا يخطف النصاري مصر ويسيطروا علي البلد ويلغوا الشريعة الاسلامية«.. ولن أتحدث هنا عن جريمة نشر إعلان في صحيفة كبري باسم الجمعية الشرعية يبدأ بالآية الكريمة »واعتصموا بحبل الله«.... ويدعو الناس الي قول نعم.. أو صاحب »غزوة الصندوق«..وهذا بالتأكيد ما سوف يحدث لو تم إجراء انتخابات مجلس الشعب قبل انتخابات الرئاسة. وليس أمامي إلا أن اناشد المجلس الاعلي للقوات المسلحة وحكومة الدكتور عصام شرف وكل من يهمهم مصير ومستقبل هذا الوطن ، تدارك هذا الأمر الجلل، ومنح فرصة كافية لكل تيارات الشباب التي صنعت الثورة والقوي السياسية التي كانت محرومة من ممارسة النشاط العام لتأهيل نفسها لخوض المعركة الانتخابية ، وإلا فإننا سنسلم البلد لأعداء الديمقراطية من بعض الإسلاميين وبقايا الحزب الوطني »تسليم مفتاح«. ونداء أخير من القلب لكل المناضلين الشرفاء الذين ساهموا في صنع الثورة ونجاحها ، خاصة شباب الثورة، أن يتحدوا في كيان أو تكتل سياسي واحد وليكن تحت قيادة الجمعية الوطنية للتغيير برئاسة الدكتور عبد الجليل مصطفي مؤقتا، وذلك للحفاظ علي المد والزخم الثوري والوصول به الي كل الجماهير في مختلف قري وأحياء مصر ..فذلك هو السبيل الامثل لاستكمال ثورتنا العظيمة ودحر الثورة المضادة..