لقد اعتدت التركيز في كتاباتي علي قضايا الأمن الدولي والأقليمي وعملية السلام في الشرق الأوسط، ونزع السلاح، وفي الآونة الآخيرة علي مسألة بلورة نظام دولي عادل ورشيد، وإنما أعتقد أن الأحداث المصرية التاريخية اعتباراً من 25 يناير الجاري، تجعل من الملائم البدء ببعض الملاحظات والتأملات حول الوصع المصري الداخلي، قبل الانتقال إلي المنظور الدولي أو القضايا الخارجية فيما بعد. "أم الدنيا"، هكذا يسعد المصريون عادةً وصف بلادهم، إلي أن أصبحوا في الأعوام الأخيرة أقل ثقة في أنفسهم، مترددين في إستخدام هذا الوصف، لشعورهم أن نفوذهم الإقليمي والدولي ينكمش، ثم بدأت ثورة 25 يناير، فأصبحت مصر مجدداً، ولمدة ثمانية عشر يوماً، محط إهتمام العالم التي أدهش شبابها الجميع بمصداقيته وإلتزامه السلمي، فإلتف حوله المجتمع بمختلف اعماره وفئاته وإنتماءاته ، بغية المشاركة في تحديد مستقبل مصر. من محاسن الصدف أن مقر إقامتي يقع علي ما يقرب من تسعين مترا من مدخل ميدان التحرير، وبالتالي تمكنت من متابعة سير الأحداث ومشاعر الحشود في الميدان بشكل مباشر ومتواصل. وبالنسبة لي شخصيًا، جاء دليل التغيير مبكرًا، وتمثّل ذلك في رد فعل مجموعة من شباب المتظاهرين من أنجال وكريمات الأقارب والأصدقاء، الذين حضروا الي منزلنا مع بداية حظر التجوال الأول، فعرضت عليهم المبيت، علي اعتبار أن حظر التجوال قد بدأ، وكان الرد المدوي هو: "من يحدد حظر التجوال؟ هذا وطننا وسنتظاهرحتي يستمعوا لنا." وبعد دقائق، نزلوا مرةً أخري إلي الميدان. مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في سبتمبر 2011 كانت مصر متجهة نحو الصدام السياسي. ومع ذلك، فمعظم السياسيين المصريين، بما فيهم أنا شخصيًا اندهشوا من توقيت التظاهرات، ولم يتوقعوا أن تفضي نتائجها إلي استقالة الرئيس السابق في فبراير. ومن المفارقة أن مصر في عهد مبارك كانت في الحقيقة أكثر ليبرالية من مصر في عهد عبد الناصر أو السادات، فيما يتعلق بحرية التعبير في مجال الاعلام. وإنه في أول خمسة عشر عامًا من عهده استطاعت مصر أن تعيد تثبيت أقدامها، وبناء أساس اقتصادها وإتسعت المساحة المتاحة للإعلام إلي حد ما، اما الخمسة عشر عامًا التالية، فقد فاقت السلبيات الانجازات، مع تحوِل النظام من نظامٍ "حاكم" إلي آخر "سلطوي"، بكل ما في ذلك من مآخذ وسلبيات من خروقات لحقوق الإنسان، وفساد بما لا يتمشي مع معايير العصر، أوطموحات الشعب المصري. وغني عن القول، فكانت نقطة التحول الرئيسية هي رفض النتيجة الفجة للإنتخابات البرلمانية في نوفمبر 2010 ثم أشعل بارود تونس الزيت المسكوب. وفي تقييم الأسباب وراء هذه الأحداث التاريخية، أعتقد أن أهمها أن الشباب ممن هم دون ال25 من العمر يشكلون 56 بالمائة من تعداد سكان مصر. ومن أهم صفات فئة الشباب عن غيرها القلق، والحماس ،والنشاط، والثقة بالنفس، والقدرة علي التواصل. وعلي الجانب الاخر، كان هناك القطاع الحاكم، والذي يتراوح عمره بين 60 - 80 عامًا - عدا قطاع رجال الأعمال- وقد أدي هذا الانقسام إلي فجوة فكرية واسعة بين الحاكمين والمحكومين، كل منهما يري المجتمع والمستقبل بشكل يختلف تماماً عن الآخر. ترتب علي ذلك فشل النظام المصري في استيعاب ما يحدث خلال التظاهرات المستمرة، وأساءة تقدير جدية ومثابرة الشباب الثائر.كان النظام أيضًا ضريرًا فيما يتعلق بصحوة المجتمع المصري الذي تزايد سخطه، خاصةً بعد موقعة الجمال المخزية، وما تلاها من معارك استمرت طوال الليل في ميدان التحرير، ودون تدخل من أحد، وكان رد فعل النظام خلال الثمانية عشر يومًا متأخرًا، ومجزأ، وفي شكل ضعيف مؤديًا في نهاية المطاف إلي تأجيج المطالب المتزايدة من قِبَل المتظاهرين ،وتصاعد مساندة المجتمع المصري. ومن اللافت للنظر أن ثقة المتظاهرين قد إزدادت بعد خروج الجيش المصري ونزوله إلي الشارع إيماناً بأنه لا يستخدم السلاح ضد المواطنين المدنيين، وكانت مجرد مسألة وقت قبل تصاعد الاحتكاك المحتمل، ويضطر الجيش إلي الاختيار بين استخدام القوة أو مساندة المتظاهرين. وكما ذكر مسئول عسكري بعد ذلك، فإن "الوقوف بجانب الشعب كان أمرا مسلّما به." من الصعب أن تعود مصر سياسيًا الي ما قبل 25 يناير؛ فما حدث يمثل صحوة مجتمعية مذهلة قادها الشباب وإشترك فيها المجتمع، و"سيطرت" هذه "الثورة الجارية" سياسياً علي البلاد أغلب مراحل التظاهر، والتحدي أمامنا الآن هو أن تسود نفس الروح الإيجابية والعزيمة والعمل السياسي لبناء الدولة، وعلينا بناء منظومة تتسم بالشفافية، وتعمل علي تشجيع المشاركة العامة المستدامة، لضمان مصداقيتها، ومنظومة تتجاوب مع التيارات السياسية والإقتصادية والإجتماعية في المجتمع، وتتجنب السلطاوية وفساد الماضي، وكلها نقاط غاية في الأهمية من أجل إيجاد علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم في المستقبل. وكل من تابع الحشود المصرية الضخمة سعياً وراء ممارسة الإستفتاء يوم 19 مارس تيقن جيداً أن الثورة جارية وإنما لا يزال أمام مصر الكثير قبل الإطمئنان أنها نجحت، ولا أستبعد أننا قد نتعثر في الطريق بين الحين والآخر، لأن تغيير الثقافة السياسية المركزية للحكومة يتطلب الوقت والمثابرة. وهناك من علماء السياسة المتحفظون حتي في إستخدام كلمة "ثورة"، قبل توافر دليل واضح علي أن الحصيلة ستختلف بشكل أساسي عما كان عليه الحال قبل ذلك. ومع هذا، يجب عدم الإستهانة بالتغيرات التي حدثت في العقلية المصرية. ولهذا فأنا أسميها "ثورة جارية"، وأولي الخطوات المطروحة بعد ترك الرئيس موقعه وتغير الحكومة هي تغييرات محدودة في الدستور، من أجل تمكين انتخابات حرة ونزيهة لممثّلينا في البرلمان، والانتخابات الرئاسية، علي أن تكون هذه بمثابة خطوة إنتقالية إلي أن نعيد النظر في الدستور بأكمله، والذي كان السبيل الذي كنت ولازت أفضله، مما دفعني للتصويت ضد التعديلات الدستورية المقترحة. وبصرف النظر عن أن نتيجة التصويت علي التعديلات الدستورية جاءت في غير الإتجاه الذي كنت أفضله، فأدعو الجميع ممن صوتوا بنعم أو لا، وأدعو مؤسسات الدولة من المجلس العسكري الأعلي إلي الحكومة إجراء مناقشة سياسية وشعبية عامة حول قضايا عديدة حتي قبل المشروع في إعداد دستور مصري جديد. تتضمن ما إذا كنا سننتقل إلي نظام رئاسي معدل أم إلي نظام برلماني، وهو نقاش يحتاج إلي فسحة من الوقت، وأتوقع أن تتعدي الشهور الستة التي اقترحها المجلس العسكري لنقل السلطة إلي جهاز مدني. وغني عن القول، هناك تناقض ظاهري بين الحاجة لوقتٍ أكثر للنقاش، والإهتمام بالإنتقال إلي حكم مدني بدلاً من حكمٍ عسكري، إلا أني أعتقد أن هناك حلولا عديدة، طالما صدقت النوايا، ولا يوجد سبب ملموس يمنع مصر من الإتفاق عليها، في ضوء الإعجاب الذي يحظي به الجيش المصري من قبل الشعب لمواقفه خلال الأسابيع القليلة الماضية، وفي ظل الإهتمام الشعبي المتنامي، بوضع الأسس السليمة للدولة المدنية الحديثة. تتابع الدول العربية التطورات المصرية عن قرب لإعتبارات عديدة أهمها إستجلاء ما إذا كانت الثورة ستكتمل بإقامة دولة مدنية صحيحة وسليمة يتم فيها تداول السلطة، ولا يخفي علي أحد أنه منذ أن توالت الأحداث في مصر، اندلعت التظاهرات في الجزائر وليبيا والأردن والبحرين وسوريا وإيران. ورغم أن لكل حالة خصوصيتها وأسبابها، وظروف تكوينها وحلولها، إلا أن السمة المشتركة بين جميع تلك الحالات، حتي وإن لم تكن السبب الوحيد لإندلاعها، هي الرغبة في المزيد من الديمقراطية والمشاركة السياسية، والحكم الرشيد، وهي مطالب شعبية عربية مشروعة يجب الإستجابة لها، وطالما توصلت الحكومات إلي علاقات صحية وتلاحمت مع شعوبها وفقاً لهذه المعايير، كلما توصلت إلي نتائج أمنة ومرضية. ويتابع الأحداث المصرية أيضاً المجتمع الخارجي بعين قلوقة علي مصالحه قصيرة الأجل وعين ثاقبة علي مصالحه علي المدي الطويل. وإذا كان تحقيق الديمقراطية في مصر والعالم العربي يحظي بمساندة الدول الديمقراطية حول العالم من حيث المبدأ، فحتي الدول الديمقراطية تترنح عندما يصبح الالتزام بالمباديء - علي الأقل علي المدي القصير - مكلّفا من الناحية السياسية، والأمنية، أو الاقتصادية. ولقد تابعت مناقشات عدة بين الأمريكيين والأوروبيين وغيرهم وجميعهم ينتابهم قلق مدفون، سواء ممن هم معنيون بالعلاقات الثنائية، أو ممن يرتكز اهتمامهم علي ضمان إستدامة تدفّق النفط بسعر معقول، وفي إعتقادي أن قلقهم هذا في غير محله، إذا كانوا بالفعل ملتزمين بإدارة علاقاتهم الدولية وفقاً للقانون الدولي والعدالة والحق. ورسالتي لهم تتلخص في أن العرب والمسلمين وشعوب الشرق الأوسط هم بشرٌ مثلكم، لا أكثر ولا أقل، يسعون مثلكم علي المستوي المحلي والإقليمي والعالمي من أجل الحصول علي حقوقهم وعلي معاملة تحقق لهم المساواة. وأنبههم أن الأنظمة العربية الديموقراطية لن تقبل بالإزدواجية في المعايير، واغتصاب حقوقهم وحرياتهم، وستكون أكثر الحاحًا في تنفيذ مطالبهم، مثل كل النظم الديمقراطية حول العالم، التي تتمتع بمواقف استراتيجية ثابتة وعقلانية. وإنما عليها الإستجابة لتطلعات وحسابات شعوبها علي المدي القصير. بإختصار، من وجهة النظر الإستراتيجية، مثلها مثل الشعوب الأخري لا تتحرك المواقف الإستراتيجية العربية سريعاً، وإنما نأمل أن يصبح العالم العربي أكثر مشاركة في العمل الدولي، وأقل إعتمادًا علي القوي الخارجية، وإذا قامت دول منطقة الشرق الأوسط غير الغربية بمسعي جاد لحل المشكلات الإقليمية علي أساس المساواة في الحقوق والواجبات، فإني لا أري مدعاة للقلق من قبل الدول الأجنبية، وإذا كانت الأطراف الدولية تدعو للديمقراطية والمساواة، ليس فقط في ما يتعلق بالشئون الداخلية للدول، وإنما كذلك مابين الدول بعضها علي الساحة الدولية، مرةً أخري فإني لا أري داعي كبيرا للقلق. وكلما أصبح صوت الشعوب التي تمارس حقوقها الديمقراطية أكثر وضوحًا قي كل بلاد العالم العربي ستصبح نفس هذه الأصوات أكثر وضوحًا وعزمًا في الممارسات اليومية فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، بما يضمن للشريك الأجنبي علاقات متواصلة مع الدول العربية وشعوبها خلال الأعوام القادمة. عميد كلية الشئون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وسفير مصر السابق للولايات المتحدة واليابان