تحت أضواء العلم الباهرة ، راح ينفض غبار القرون عن الكنز المدفون، الذي استنقذه من فم العقود المتراكمة، واستخلصه من أنياب الضياع والنسيان ، وبحنكة الجوهري ، وخبرته أخذ عالمنا الكبير د. أيمن فؤاد سيد رئيس الجمعية التاريخية المصرية ومحقق التراث المعروف، والمؤرخ البارز، يسلط الأضواء علي جواهر الكنز.. ذلك الكتاب الذي يحتفظ لنا رغم تراكم العصور بنبض مجتمعنا وخلجات نفوس ناسنا منذ مئات السنين، وملامح الانسان والمكان في ذلك الأوان البعيد، حيث نجح شيخ الحارة المصرية المؤرخ العظيم تقي الدين المقريزي تلميذ ابن خلدون في ان يغوص في عادات المصريين وطقوسهم في الاحتفال بالأعياد والأفراح ، ومسالكهم في أحزانهم وأتراحهم، ففي كتابه الخالد «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار »، استطاع المقريزي ان ينقل إلي الأجيال من بعده طعم الأيام الخوالي ورائحة العصور ، مخلدا نبض الجموع وروح الأماكن وعبق السنين في سبيكة نادرة ثمينة ، تؤكد لنا ان الماضي لا يموت ، بل يبقي ماثلا في الوجود ، متأهبا للالتحام بالحاضر والمستقبل ، إذا ما بعثه قلم مؤرخ فذ كالمقريزي الذي أعاد إليه مؤرخنا د.أيمن فؤاد سيد الاعتبار، بتحقيق كتابه الخالد من جديد، وعبر السطور التالية يصحبنا عالمنا الكبير في رحلة للغوص في أساليب المصرييين للاحتفال بالعيد، وطرقهم في تعميق لحظات الفرحة، وإطالة أوقات السرور ، متوسلين بالعديد من المظاهر والعادات التي تضفي علي أجوائهم لمسات المرح والسعادة. في البداية يقول مؤرخنا الكبير: حاول الفاطميون ان يجذبوا المصريين إلي مذهبهم ، ووجدوا أفضل الطرق للدعاية إلي فكرهم هي الطقوس التي تمارس في الاعياد التي يحتفل بها المسلمون مثل عيدي الفطر والاضحي ، لذا تفننوا وابدعوا في صناعة كعك العيد الذي كانوا يقومون بتصنيعه في دار الفطرة الذي انشيء بجوار مسجد سيدنا الحسين، وهي الدار التي بنيت في عهد العزيز بالله الفاطمي خارج بلاط القصر، وكانت مخصصة لإعداد الحلوي الخاصة بالعيد والتي يتم تصنيعها من الدقيق والزعفران والسكر، ويشرف الخليفة بنفسه مع وزيره علي توزيعها علي المستحقين، وكان يوضع بداخل بعض الكعك دنانير ذهبية، ومن يحظي في نصيبه بالدينار يقال له: افطن له. كيف تري تغلغل أثر هذه الفترة التاريخية في عمق الوجدان المصري ، ولماذا تستمر آثارها في العقل الجمعي حتي وقتنا هذا ؟ لان المصريين محبون لأهل البيت ولدينا ستة مساجد لنجوم آل البيت مثل: سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة وغيرهم، وأصبح ذلك تراثا اجتماعيا عميقا تتوارثه الأجيال، وهذا ما نلاحظه في إقامة موالد الحسن والحسين والسيدة زينب حيث يصنع المصري حالة من التجلي الصوفي تعبيرا عن حب سيدنا النبي محمد صلي الله عليه وسلم. هل تعتبر تحقيقك لكتاب شيخ الحارة المصرية تقي الدين المقريزي المعروف باسم الخطط هو النموذج الأمثل لعملية تحقيق المخطوطات والمثل الذي يحتذي به المحققون ؟ كل النصوص التي تنتمي إلي مجال ما تتأثر حسب الموضوع الذي تعالجه، فبالنسبة إلي كتاب المقريزي اعتمدنا علي تطور مصر العمراني وجمعنا كل المصطلحات التي تداولت في العصور الماضية، وقد قمت بالتقاط الصور للتعرف علي تاريخ المكان هل تغير او استبدل المبني بمبني آخر أم جري تهديمه وتم انشاء مبني جديد مكانه، وقد ساعدتنا كثيرا المسودات التي تمثل التطور الأول للمفهوم عند المقريزي. ما الذي دعاك إلي إعادة تحقيق كتاب المقريزي الآخر إتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء رغم ان احد المحققين الكبار قد أصدر هذا العمل من قبل ؟ كانت طبعة قديمة صدرت عام 1973 ، وكان الكتاب خاليا من اسماء مصادر كتب المقريزي التي بني عليها هذا العمل ونلاحظ عدم الدقة في قراءة النصوص مما يجعل الباحث يشك في دقة تلك التحقيقات، وقد حاولت إصدار نشرة علمية جديدة من ذلك الكتاب معتمدا علي قراءة مصادر المقريزي وعلي دراسات جزئية مرتبطة برؤية المقريزي في العربية واللغات الأجنبية الأخري. و ما الجديد لديك بعد هذا الكتاب ؟ إعادة نشر كتاب طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار والحاكمي الجسمي الذي صدر بتحقيق والدي رحمه الله منذ أربعين عاما، حيث أحاول تقديم نشرة علمية نقدية جديدة لهذا الكتاب.