من وسط أكوام اللا نظام الحالي نأمل ضارعين أن يتخلق نظام جديد لهذا البلد، ينجح في اللحاق بآخر عربة من آخر قطار علي آخر محطة اسمها الاستقرار والمواصلة. الاقتصاد المصري ورغم محاولات التهدئة والتطمينات ربما يفاجئنا خلال أسابيع بنتائج مقدمات عشناها وسط الغضب، والاحتجاج، والاعتصام، وهي الظواهر التي صاحبت الثورة، ثم استمرت بقوة الدفع الذاتي وحدها تعطل الحياة العامة، وتضرب في مقتل فرص البلد في تدارك ما فاته. والحقيقة أن توقعاتي مقلقة بشأن ما وصل إليه الاقتصاد، وأنا أتابع كل شاردة وواردة، وكل رقم أو تصريح يتعلق بذلك الاقتصاد، داعيا أن يخيب توقعي أو قراءتي للمستقبل. علي أية حال لفتني النص الذي تلاه السيد رئيس الوزراء عند تشكيل حكومته، وهو ما تضمن اشارة أشبه بالتعهد تنص علي أن مصر ستلتزم اقتصاد السوق الحر. وما دمنا نبدأ من أول السطر، ونحدد التزاماتنا علي هذا النحو، أرجو أن يقر في أذهاننا أن الذي كان موجودا قبل الثورة ليس اقتصاد السوق الحر. كما نعرفه في كل البلاد العالم، ومن ثم فإن ما تلتزم به السلطة الجديدة ينبغي أن يكون المعني الصحيح للرأسمالية. إذ أن الرأسمالية في العالم كله هي: تقديس الملكية الفردية، والمنافسة في الأسواق، وحرية الأسعار وإطلاقها وفقا لمقتضيات العرض والطلب، وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلا بالقدر الذي يحتاجه النظام العام، وضمان العدالة الاجتماعية التي تحول دون الاحتكاك بين طبقات المجتمع، أو تهدد النظام الاقتصادي واستمرار وتيرته في العمل داخل المجتمع، ثم أخيراً ضمان قدر معقول من الشفافية، ومنع مؤسسة الفساد من الاستفحال أو التغول. وبالنظر إلي كل ما سبق فإن ما كان موجودا قبل الثورة لم ينتم بحال إلي فكرة الرأسمالية، وما نحن بصدده الآن لا ينبغي أن يكون استئنافا لما سبق، وإنما تصنيعا لرأسمالية حقة وجديدة. عشنا لعقود ما أسميه: »رأسمالية الهدايا« وأعني بالهدايا »القروض أو التوكيلات أو الأراضي«. بعبارة أخري قام النظام السابق بافراز وتصنيع طبقة رأسمالية مفتعلة لم تمر بالأطوار الطبيعية التي يتعين علي أية طبقة نظيرة أن تجتازها، وإنما أغدقت السلطة عليها قروضا بغير ضمانات كافية أو بدون ضمانات علي الاطلاق، أو منحتها براحا من الأرض بأثمان بخسة نجدها في اليوم التالي وقد تحولت ملايين بقدرة قادر عبر تغيير صفة الأرض من »زراعية«. إلي »بناء« أو أخيرا السماح لأصحاب التوكيلات بالتحكم في السوق وأسعاره كما رأينا في عشرات من الحالات. هي رأسمالية مصنوعة ومصممة لكي تتغذي علي الفساد. ليس فيها روح المغامرة، أو الصعود الشاق والمفهوم، أو ما يسمي بالمسئولية الاجتماعية إزاء الناس والمجتمع، وبيئة العمل بأكملها. بالعربي كنا أمام قوة تتمسح بالرأسمالية فيها شغلتها الحقيقية هي ممارسة الفساد والسير في كل الطرق المؤدية إليه. وبالطبع تواجهنا هنا المقولة التقليدية من أن المنحرفين قلة.. ونرد بل إنها القلة القوية المهيمنة والمسيطرة. كما تواجهنا مقولة أن هناك رجال أعمال شرفاء.. ونرد: هذا صحيح ولكن الحيتان الكبيرة فرضت علي الصغار نظاما للعمل والاستثمار والسوق، يدور كله في نطاق الفساد وإطاره وإساره حتي لو لم تدرك الأسماك الصغيرة إلي أين تقودها الحيتان. وتواجهنا كذلك مقولة أننا لو حطمنا رجال الأعمال فلن يقوم اقتصادنا علي شيء لأن الرأسمالية تتكيء بطبعها علي شريحة من رجال الأعمال والمستثمرين، ونحن أيضا نرد: هي لم تك طبقة من رجال الأعمال، ولكنها طبقة استلابية قامت علي نهش مقدرات المجتمع، ثم هي وبالتقاطع مع مفهوم الاستقلال الوطني ربطت نفسها بعلاقات دولية، واحتكارات، وشركات متعددة الجنسيات، وأصبحت هي جوهر مشكلة التبعية الذي لا نقدر علي التصدي له، اقتصادنا بات جزءا من شبكة مصالح دولية ادارتنا وفقا لاولوياتها الاقتصادية واجنداتها السياسية. التعامل مع مصر يأتي بالنسبة لتلك الأطراف الدولية من خلال التعامل مع طبقة تصبح بمثابة الوكيل التجاري للأجانب، وقد كانت الطبقة الجديدة التي افتعلها النظام هي ذلك الوكيل. الفساد لم يك نزوعا فرديا داخل هذه الطبقة، وإنما كان وظيفة لأن دورها تحدد في أن تتحول إلي مضخة يتم بها نزح ثروات البلاد لصالح السادة وراء البحار، وينوب مديرو تلك المضخة ممن أطلقنا عليهم زورا اسم: »رجال الأعمال« بعضا من تلك الثروات المنزوحة المنهوبة. اصطنع النظام ما أطلق عليه: »طبقة رأسمالية«، وافتعلها لتكون واجهة للتعامل مع قوي اقتصادية دولية أرادت نهبا جديدا لمصر عبر تلك الطبقة الصاعدة لتحقق ما يمكن أن أسميه: »الاستعمار عن بعد«. واستطيع أن أرسم أمامكم خطوات ومسالك صعود كل من الوزراء المحابيس في طرة، أو الفارين إلي الخارج، لنكتشف معا حقيقة أنهم كانوا مجرد وكلاء للاستعمار الجديد في مصر. القصة بشعة.. وأحد تجليات بشاعتها هو موضوع »الأراضي« بالذات، إذ يذكرني ذلك الملف بنص في الكتاب الأشهر لأحمد بن إياس »بدائع الزهور في وقائع الدهور« حين أشار إلي ما فعله المماليك بالبلد قائلا: »واقطعوا الأرض إقطاعات بينهم« يعني تحولوا إلي اقطاعيين اقتسموا أراضي مصر، وصار لكل من شذاذ الآفاق أولئك إمارة يأتمر فيها الناس بأمره!! نهب الأراضي ملف مخيف، وربما كانت الدراسات التفصيلية المهمة التي ينشرها الأستاذ محمد سعد خطاب في جريدة »صوت الأمة« إحدي المرجعيات المهمة في التعرف علي سلوك الطبقة التي اطلقت علي نفسها زورا. »الرأسمالية« وازاء الأراضي. إذ بدأ الأمر وكأنه نزوع »نفسي« بأكثر منه عملية »اقتصادية«، حتي لو كان تلخيص تلك العملية الاقتصادية هو السرقة، أو الانتزاع بغير وجه حق. كنا بالفعل أمام مزاج أناس اندفعوا إلي بسط سيطرتهم علي نحو مجنون، وبمنطق التملك لكل ميليمتر من الأرض علي المستوي المادي أو الواقعي، وبما يعنيه من التسيد علي بلد بأكمله في المستوي الرمزي أو المعنوي، الأمر الذي يقود إلي عبودية الشعب أمام المماليك الجدد. ملف نهب الأراضي أخل إخلالا جسيما بالحالة المصرية علي بعضها، إذ فيه إفساد للبيروقراطية الإدارية من أعلي مستوياتها إلي أدناها، وفيه لعب مباشر في تراتبية الثروة الطبيعية بتصعيد وضع مجموعة بالذات وعلي نحو مفاجيء، وخفض مكانة مجموعة أخري وعلي نحو مفاجيء كذلك، وفيه أخيرا إطاحة لأهمية أو تأثير »الإنتاج«، الذي في الأوضاع الرأسمالية الطبيعية هو السلم الذي ترتقيه طبقة فيضعها تدريجيا عند القمة، أو تفشل في صعوده طبقة أخري فتراوح مكانها عند السفح. ثم أن ملف نهب الأراضي فيه اهدار لما يمكن أن نسميه، الاحتياطي الوطني للثروة. 21ومن جانب آخر فإن أحد التجليات الأخري لبشاعة قصة الرأسمالية الجديدة في مصر كان موضوع »القروض«. إذ بدا الأمر وكأن القروض التي منحتها المؤسسة الحاكمة في البلد كانت عبورا فوق النظم المصرفية الطبيعية، أي جاءت خضوعا لمنطق الهبة السلطانية، لا انصياعا للقواعد البنكية المتعارف عليها. قروض بلا ضمانات للمحاسيب وأعضاء »الجونتة« أو الشلة الحاكمة، خربت بني مالية مؤسسية لتسهم في التشوه الطبقي في البلد، والذي لم يستند إلي أية روافع اقتصادية حقيقية، وكأننا كنا بصدد إحدي ألعاب الملاهي التي ترفع واحدة من المركبات إلي فوق، وتهبط بالأخري إلي تحت، وعلي نحو من اللهو والعبث والمسخرة بأكثر من حضور أي آلية منطقية أو قانونية عادلة، لا بل أن تثبيت وضع مركبة »فوق«، وأخري »تحت« يظل أمرا في يد آمر تحريك اللعبة، ورهنا بكيفه وذوقه ومزاجه. أما التوكيلات فقد أخذت أبعادا أكثر تعقيدا حين بات أصحابها وزراء في الحكومة، أو قيادات في الحزب الحاكم سابقا. إذ أن نظرة واحدة إلي الدور الذي لعبه أحد وزراء المرحلة فيما يخص أسعار السلع الغذائية التي حاز بعض توكيلاتها يقول باننا كنا أسري في أيادي لصوص حقيقيين، وهكذا في توكيلات تصنيع الصلب التي ربطت اسما معينا بالتصدير إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكأنها توطيد لوضع ذلك الشخص، زاد من فرص قبضه علي السلطة والنفوذ. الدور الذي لعبته الاحتكارات العالمية في هندسة واطلاق رموز الرأسمالية المصرية الجديدة هو ملف ينبغي أن ندرسه بتأن بعد أن ينقشع غبار الأحداث الحالية. كما لابد أن نقلب بعض صفحات نوع الاجتماعات التي عقدها رموز حكومة النظام السابق ممن ارتبطوا بمشروع التوريث علي هامش منتدي دافوس سنويا، وهو ما يراه البعض »مجلس إدارة العالم الذي يتألف من ممثلي الشركات متعددة الجنسيات«.. وأنا مازلت مصرا علي ضررة تأمل نوع ممثلي الشركات متعددة الجنسيات الذي ارتبط به الوزراء رجال الأعمال في النظام السابق، وعقدوا معه الاجتماعات الحميمة في دافوس. لابل ربما أضيف ورقة هنا عن نوع العلاقات التي ربطت بعض أولئك الوزراء بمسئول بعينه في الاتحاد الاوروبي »بريطاني من أصل يهودي كان له أبلغ الأثر في التوجيه السياسي لتوني بلير.. وكان أحد وزرائنا رجال الأعمال يطير إلي باريس خصيصا من أجل لقائه والعشاء معه والانتصاح بنصائحه أو فلنقل أوامره«. وبالمناسبة كان المسئول البريطاني كذلك هو الأنموذج الذي حاكاه أحمد عز في أسلوب الحملات الانتخابية البرلمانية campaigning ولكن من ناحية الشكل فقط، إذ أن المضمون كان بالقطع التزوير وعلي نحو فاضح جدا. بالعربي أنا اتحدث عن بيتر مدلسوف المفوض التجاري الاوروبي وزير شئون اسكتلندا، ثم التجارة والصناعة في حكومات بلير، قبل أن يخرج من الحكومة في فضيحة قرض مشبوه من الاقتصاد جيفري روبنسون. ما هو نوع العلاقة الوثيقة جدا التي ربطت هذا الرجل بالضبط بأحد وزراء العهد السابق من رجال الأعمال؟! أنا أعرف بعض المعلومات التي سأنشرها في الوقت المناسب، كما سأنشر اجابة وافية علي سؤال: لماذا لم تبدأ تلك العلاقة الحميمة جدا إلا بعد أن استوزر رجل الأعمال المصري؟ أي بات وزيرا في حكومة الاستاذ نظيف التي غصت باللصوص. نهايته... حين استمعت إلي كلمات د.عصام شرف رئيس مجلس الوزراء، التي تحدث عن الاستمساك بالنظام الاقتصادي الحر، جمدت منتبها ومقررا أن استلفت نظر الجميع إلي أن النظام الحر هو ما سوف نبنيه مع بعض رجال الاعمال الشرفاء، وليس مواصلة لتلك العشوائية الذممية الأخلاقية والاقتصادية والسياسية، التي تمددت بغير نظام، وبغير حدود تحت مظلة رأسمالية الهدايا. القروض والتوكيلات والأراضي