تعيش مصر هذه الأيام حالة من الفلتان والفوضي المثيرة للريبة بسبب استمرارها بفعل عوامل غامضة مجهولة هي لاشك مستفيدة مما تقوم به . واذا كان الفلتان موجودا علي المستوي الأمني والسياسي والاقتصادي والمؤسساتي فان الفلتان الاعلامي يعد هو الأخطر . ففي ظل التنافس المحموم بين مختلف وسائل الاعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والأليكترونية في تحقيق السبق بالتركيز علي قضايا الفساد ضاع العنوان الأكبر والأهم للعدالة وهو أن الانسان بريء حتي تثبت ادانته من خلال حكم قضائي نهائي لا استئناف له . واقصد أن مجرد ربط اسم لشخصية ما بوصف المتهم هو انتهاك لحق أصيل في القوانين السماوية والوضعية بأن الأصل هو حرية الانسان . والخطورة المتزايدة في ظل الفلتان الاعلامي هو أنه لم يعد مقصورا علي صحف خاصة واصدارات ما يعرف ب " بير السلم " لكنه امتد ليشمل الصحف والمجلات والاصدارات الحكومية "القومية سابقا " التي صارت تهرول بكل ما لديها من قوة لاثبات أنها تغيرت تماما والواضح أنها لم تتغير فهي لا تزال تبحث عن جهة ما أو حتي مفهوم ما لكي تمارس النفاق الذي تعودت عليه لذلك لم نجد في معظمها أي اشارة أو تلميح لوجهة نظر مختلفة تجاه من يتولون السلطة في الوقت الحالي . فاذا اضفنا الي تلك الاصدارات الصحفية المختلفة محطات التلفزيون الخاصة والعامة ثم المواقع الاليكترونية الخاصة والعامة التي لاسيطرة لأحد عليها لاكتشفنا أن من يتعرض للظلم والتشويه قبل ثبوت ادانته يواجه آلة اعلامية جبارة للتشويه يصعب بل يستحيل عليه أن يزيل آثارها عليه وعلي أفراد أسرته بعد اعلان براءته اذا أن خبر البراءة يكون دوما بأصغر مساحة وأقل اهتمام !. ان المفهوم - ضمنا - هو أن العدالة كانت علي رأس مطالب الذين قاموا باشعال فتيل ثورة 25 يناير الشهيرة بثورة الورد البلدي فهؤلاء خرجوا يعلنون رفض الظلم ويطلبون انهاء حالة القمع والخوف التي عاشت في ظلها مصر وعاني المصريون علي مدي سنوات طويلة سواء من خلال التعامل مع أجهزة وزارة الداخلية جميعها أو صعوبة الحصول علي الحقوق الانسانية اعتمادا علي حلقات التقاضي المعقدة ! . وكم هو نبيل هذا الهدف الذي أعلنته الثورة الشعبية الأعظم في تاريخ مصر والعالم . ومن هنا فان استمرار مشاعر الظلم تصبح بمثابة ردة عن تلك الأهداف النبيلة أيا من كان هؤلاء الذين يتعرضون للظلم . واذا كنا فرحنا باسقاط بعض الظالمين فان الكارثة كل الكارثة أن نسمح بتحول الكثيرين الي مظلومين . واذا كانت حرية الانسان هي الأصل باعتباره اليقين الذي لا يزول الا بيقين مثله أي أن الأمر المتيقن ثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع، ولا يحكم بزواله لمجرد الشك. والأصل أي اليقين هو براءة الذمة أي أن الإنسان بريء الذمة من وجوب شيء أو لزومه، وان مشغولية ذمته تأتي خلاف الأصل. اننا لا يمكن أن نطالب بالعدل لفئة دون أخري والا أصبحت الفئة التي تطالب بالعدل الآن هي ذاتها الفئة الأخري فيما بعد . فالعدل مفهوم مطلق لكل زمان ومكان . ولذلك تنصر القوانين في مشارق الأرض ومغاربها علي أن عبء اثبات التهمة يقع علي عاتق سلطة التحقيق او الاتهام وفقاً لقواعد الاثبات في القضايا الجنائية . كما أن مهمة قاضي التحقيق او النائب العام أو المحكمة المختصة لا تقتصر علي اثبات التهمة فهي في النهاية اجهزة من اجهزة العدالة مهمتها الاصلية اثبات الحقيقة، ذلك ان فكرة العدالة لا يمكن ان تبني علي الوهم او القناعات الزائفة. ان شعار العدالة هو تلك السيدة معصوبة العينين التي تمسك بالميزان وهي معصوبة العينين لأنه ينبغي لها أن تقوم بعملها في تحقيق العدالة بغض النظر عن شخوص الذين تفصل فيما بينهم . ولكي يتحقق هذا الهدف النبيل فان علي كل الأطراف أن تؤدي دورها وعلي رأسها وسائل الاعلام التي ينبغي لها أن لا تتسرع في نشر أسماء المتهمين حتي بعد احالتهم الي المحكمة الا بالحروف الأولي وأن تنتظر حتي يصدر الحكم النهائي ثم فلتفعل ما يحلو لها حتي تحقق أحد أهم أهداف الاعلام وهو التبصير والتعليم ليكون المجتمع أفضل وأكثر صحة . أما دور جهات التحقيق والفحص في تحقيق العدالة فيقتضي من القائمين عليه ضرورة تبصير المجتمع بما فيه وسائل الاعلام بحقوق الانسان باعتباره بريئا حتي تثبت ادانته والانسان هنا هو أي انسان بغض النظر عن منصبه أو أصله أو وظيفته اذ تقتضي العدالة المطلقة أن يتساوي الجميع أمام ميزان العدالة العمياء . لقد تابعنا خلال الأيام الماضية عبر وسائل الاعلام المختلفة قصصا لظلم حاق بالعشرات بينهم مسئولون كبار سابقين قبل 25 يناير تم تصويرهم بأحط الصفات لمجرد أنهم كانوا يرفضون المشاركة فيما يرونه فسادا أو ظلما وبعضهم تم الزج بهم في السجون وتعرفنا علي عشرات القضايا الملفقة من جانب أجهزة وزارة الداخلية المختلفة التي كانت تعيث فسادا في كافة أنحاء مصر المحروسة دون رادع باعتبار أن المنتسبين اليها هم السادة - علي حد ما جاء مؤخرا في تصريحات مصورة بالفيديو لمدير أمن دمنهور - وبالتالي يكون المواطنون عبيدا !. وليس هناك أكثر من أعضاء جماعة الاخوان المسلمين الذين تعرضوا لأشد أنواع التنكيل والظلم والقهر الذي شارك فيه الجميع وفي مقدمتهم وسائل الاعلام بل وشارك فيه أيضا - بكل الأسي - بعض حراس العدالة اتقاء لغضب أو سطوة حاكم . والمفروض أن تكون للجميع عبرة فيما جري لهؤلاء المظلومين فيتوقفون عن ارتكاب ظلم جديد ولنتأسي بقول النبي عليه الصلاة والسلام : " لعن الله قوما ضاع الحق بينهم " . اللهم احفظ مصر وطنا للعدل والأمن والأمان والحرية .