قامت التيارات والجماعات الإسلامية في الثمانين عاما الماضية بصناعة فكر سقيم، تحاول فيه أن تستخرج وتصنع تصورا عن عدد من المسائل والقضايا الكبيرة، رغم افتقاد تلك التيارات للأدوات الصحيحة في فهم الشرع، جعل الصورة المستقرة في أذهانهم لعدد من القضايا والمسائل صورة منحرفة، ومختزلة، ومبتورة. ومن تلك القضايا الحساسة والخطيرة، التي صنعوا فيها صورة معكوسة ومشوهة قضية الوطن، فلو أننا قمنا بالغوص داخل عقل تلك الجماعات، ورأينا المفردات والمكونات التي تصنع صورة الوطن في أذهانهم، لوجدنا صورة مركبة من عدد من المباديء الغريبة، حيث تتركب صورة الوطن داخل تلك العقلية من عدد من الأمور، وهي: أولا:الوطن حفنة تراب لا قيمة لها. التعليق: هذا تصوير اختزالي للوطن، حيث إن الوطن في الحقيقة ليس حفنة تراب، بل هو شعب، وحضارة، ومؤسسات، وتاريخ، وانتصارات، وقضايا، ومكانة إقليمية ودولية، وتأثير سياسي وفكري في محيطنا العربي والإسلامي، ورجال عباقرة صنعوا تاريخ هذا الوطن في مجال العلم الشرعي، وفي التاريخ الوطني الحافل بالنضال لحماية هذا الوطن، وفي التاريخ الاقتصادي، والتاريخ العسكري، والديبلوماسي، والأدبي، والفني، وغير ذلك من المجالات التي نبغ فيها العباقرة من أبناء هذا الوطن، فتجاهل كل هذه المكونات التي تصنع مفهوم الوطن، واختزالها في حفنة تراب، يمثل عقوقا وطنيا، وفهما مجتزئا ومشوها، وتحقير لأمر عظيم. ثانيا: حب الوطن انفعال بشري سخيف، لابد من مقاومته والبراءة منه، مثل ميل الإنسان للمعاصي. التعليق: هذا فهم سقيم، وخلط غريب بين المشاعر الخبيثة الآثمة، التي أمرنا الله تعالي أن نتنزه ونتسامي عليها، وبين المشاعر النبيلة، والدوافع الفطرية الراسخة، التي اكتفي الله تعالي بها، واعتمد الشرع علي شدة ثباتها في النفس الإنسانية، وأنه بسبب استقرارها وثباتها في النفس فإن الشرع لا يحتاج إلي تقنين تشريع لها، لأن دوافع الطباع تكفي لتوجيه الإنسان فيها إلي المسار الصحيح، ومن هذه الدوافع النبيلة الانتماء والوفاء للوطن. وهذا المعني قد أشار إليه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي صاحب إحياء علوم الدين، حيث قال في كتاب: (الوسيط) في فقه السادة الشافعية: (ولكن في بواعث الطباع مندوحة عن الإيجاب؛ لأن قوام الدنيا بهذه الأسباب، وقوام الدين موقوف علي قوام أمر الدنيا ونظامها لا محالة)، فهذا هو العقل المنير، الذي استنار بنور الشرع، وفهم عن الله مراده، واهتدي إلي أن الشرع يكتفي في عدد من المسائل بثبات دوافع الطباع، فلا يأتي فيها الشرع بتشريع أو أمر معين، مطمئنا إلي أن الطبع السليم كفيل بتوجيه الإنسان، ومن هذه الأمور التي ينتجها الطبع السليم حب الوطن والانتماء إليه والوفاء له، وقد روي الدينوري في كتاب: (المجالسة) من طريق الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول: (إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلي أوطانه). ثالثا: رفض فكرة الوطن لأنها في نظرهم مقابل العقيدة أو الخلافة أو الأمة. التعليق:لما أن كان الانتماء مكونًا راسخًا من مكونات الفعل البشري، وهو من أهم مكونات الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقد أكده الشرع الشريف، وانطلق منه، وعول عليه، ولم يقمعْه أو يتجاهله، ولكن عدله ونسقه، وحدد للمكلف معالم راقية للانتماء، تلبي ذلك الدافع القهري المنبعث من داخله، وتحفظه من مزالقه، التي من الممكن أن يؤدي إليها. ثم إن الشرع الشريف لم ير بأسًا بوجود انتماءات جزئيةٍ في إطار ذلك الانتماء الكلي، تدعمه وترسخه، وتنبع منه، وتفضي إليه، ولا تخرج عن نسقه الكلي، فسمح بمحبة البقعة المحددة التي ولد فيها الإنسان وعاش، وهي موطنه المباشر، ولا يتعارض ذلك مع محبة الأمة بأكملها، بل هو جزء منها، فإن غلب عليه حبه وانقلب تعصبًا، يعادي من أجله المسلم الناس فإن الشرع يرفضه، ومن هنا جاءت محبة الأوطان والديار، وأكد الشرع قضية حب الوطن، وكان صلي الله عليه وسلم يحب مكة ويشتاق إليها، مع أن المدينة مقره ومثواه. ومن هنا أيضًا جاءت محبةُ توجهٍ علميٍّ معين، أو تيارٍ فكريٍّ معين، أو منهجٍ بحثيٍّ معين، دون أن يَحُولَ ذلك بين المسلم وبين الدوائر الأوسع، والأُطُر الكبري، بل كل تلك الانتماءات من نبع الانتماء الأكبر، وهي التي تكوِّنه وتبني أركانه، ولذلك نهي الشرع عن انتماء جزئيٍّ يتعصب له المرء حتي يحادَّ به المسلمين، ويقاطعَ به بقية الانتماءات الجزئية، التي تصب في معين الانتماء الأكبر، وكل ذلك من أجل أن يستمر التوازن بين دوائر الانتماء المختلفة، وبعضها أكبر من بعض، وبهذا تزدهر المواهب، وتتعدد الأفكار والرؤي، دون عصبية ولا عداء. فالانتماء دوائر، بعضها أوسع من بعض، والأكبر منها لا ينفي الأصغر، والصغير منها لا يكر علي الكبير بالبطلان، ولا يقطع الروابط ولا الصلات مع أبناء الانتماء الكبير. وانتماء الإنسان لوطنه لا يلغي ولا ينفي انتماءه إلي أمته العربية، وعالمه الإسلامي، لأنها دوائر متداخلة كما سبق. والانتماء إما أن يزول، فيدفع صاحبه إلي التنكر والتبرؤ من أوطانه وقومه وأهله، مما لا يجمل به الانسلاخ منه، وإما أن يزيد بصاحبه، فيصل به إلي العصبية، التي تجعل انتماءه هذا يفسد عليه ما يربطه بأبناء الدوائر الأوسع من الانتماء، ففارق بين حسن الانتماء والوفاء، والقيام لكل دائرة من دوائر الانتماء بحقها، بما لا يقطع روابط البشر، وهو الذي نتحدث عنه، وبين التعصب الذي يجعل الإنسان شديد الحمية إلي دائرة بعينها من دوائر الانتماء، تجعله يعادي من سواها ويقاطعه ويتحامل عليه. وإنما حرصت علي تبيين هذا المعني تصحيحا لخطأ شاع عند بعض المعاصرين، ممن ظنوا أن قيامهم بالدين يقتضي منهم البراءة من حب الأوطان، وقد تبين مما سبق من كلام أئمة الهدي أن حب الوطن دائرة من دوائر الانتماء، نطقت بها الفطرة، وسقاها الشرع الشريف ورعاها، وأقام موازين القسط بينها وبين بقية دوائر انتماء الإنسان، بحيث لا يجور بعضها علي بعض، وبحيث تتراكم وتتسق بما يحقق كمال إنسانية الإنسان.