الجندي المجهول الذي لم نعطه حقه حتي الآن.. يقدم لنا خدمات عظيمة ولا نقدره.. يتصدر الصفوف ليحل مشاكلنا عندما نغرق في «شبر ميه».. لم نقل له مرة شكراً.. ولا يتلقي منا في كثير من الاحيان سوي الشكوي في حين لا يسمع لشكواه أحد. هو عامل المجاري أو الصرف الصحي.. يعمل في دنيا اخري تحت الأرض التي نسير عليها.. يحمينا من الأمراض ولا يحميه أحد منها أو يعطيه ما يستحقه. خضنا رحلة طويلة من أجل الدخول إلي العالم السري الذي لم يهتم به أحد.. ذهبنا نبحث عنهم في منطقة مزلقان أرض اللواء في بولاق الدكرور.. اقتربنا منهم للحديث معهم ولكنهم رفضوا وكانت الأسباب مختلفة، فبعضهم لا يريد أن يعرف أحد بعمله.. والبعض الآخر طلب مبلغا ماليا مقابل الحديث معنا، وتركناهم وذهبنا إلي منطقة الوايلي وكانت هناك رحلتنا مع «عم محمد».. شاهدناه يقوم بفتح غطاء بالوعة مجاري في شارع مسعود عراقي بعد تلقي شكوي من أحد السكان بانسدادها.. تابعناه في كل مراحل عمله التي استخدم فيها يديه العاريتين وأعواد التسليك الحديدية في مهمته.. اقتربنا منه بعد أن فرغ من مهمته وأغلق غطاء البالوعة ودار بيننا حوار حكي لنا فيه قصته، ويقول لنا انه بدأ العمل في هيئة الصرف الصحي وعمره 23 عاما وكان في غاية السعادة في أول مهمة له، ويقول: بمجرد أن قمت برفع غطاء أول بالوعة شعرت بالقئ والقرف وتركت العمل لمدة ثلاثة أشهر وعملت سباكا، وبعد الثلاثة شهور اضطررت للعودة الي عملي كعامل مجاري لضيق ذات اليد واستمرت معي حالة الاشمئزاز والقئ يوميا لمدة خمس سنوات لدرجة انني كنت استحم قبل الخروج من المنزل وبعد عودتي من العمل.. وخبأت خبر عملي بالمجاري عن زوجتي وأولادي الخمسة منهم شابان يؤديان الخدمة العسكرية وثلاث فتيات لمدة تجاوزت الثلاثة عشر عاما ولم يعرفوا إلا «بالصدفة». يبوح لنا بهمومه ويقول: نعمل في مهنة بغاية الصعوبة ولا نحظي بالتقدير الكافي من المواطنين بل نتلقي الاهانة وسوء المعاملة ونظرة «الدونية» التي تلاحقنا في كل مكان لدرجة أن الأهالي يضحكون عندما يشاهدون أطفالهم وهم يجرون خلفنا ويقولوا لنا «بتاع المجاري اهوه».. ويؤكد عم «محمد» أن السبب الرئيسي وراء انسداد بلوعات الصرف هو سوء سلوك المواطنين في التعامل مع الصرف الصحي فهم يلقون بالمخلفات المنزلية في الصرف سواء كانت بقايا أطعمة أو موادا صلبة مثل الأكياس البلاستيكية وحتي الملابس وحفاضات الاطفال، أما البلوعات التي تتواجد بجانب المستشفيات فتمتلئه بالسرنجات والدماء وخراطيم المحاليل الطبية وبقايا العمليات الجراحية وبقايا علب الأدوية والشرائط الفارغة. أما أصحاب محلات الجزارة فيلقون المخلفات الناتجة عن تنظيف الذبائح بالشوارع كما يؤدي إلي انسداد البلوعات بصورة مستمرة خاصة في أيام الأعياد والمناسبات.. وينتاب عم محمد الخوف بصفة مستمرة من تعرضه للأمراض وخاصة الالتهابات الكبدية وغير ذلك وخاصة انه يتعرض هو وزملاؤه لغازي الميثان والامونيا واللذين ينتجان من تفاعلات المواد التي تلاقي ببلوعات الصرف والتي تتسبب في وفاة العامل فور استنشاقها فضلا عن التعرض للاوبئة والأمراض والحشرات.. أخذ نفسا عميقا وقال «تطعيم ايه وأدوية ايه انا آخر مرة أخدت فيها جرعة مصل منذ 6 سنوات». يتركنا عم محمد بعد أن شكرناه.. وعذرناه ولكنه لن يعذرنا علي اهمالنا له ولحقوقه.