جاء يوم فتح مكة، وأقبل ﷺ في جيش عظيم ظافر قاهر، يتدفق جنوده كالبحر المكتسح، لا طاقة لقريش به، حتي انبعثت النشوة في قلوب بعض الأفراد، وظن أن هذا يوم الانتقام، وأنه اليوم الذي ستراق الدماء فيه أنهارا، ويثأر فيه المسلمون لأنفسهم من ظلم طويل، وقهر شديد، وتعذيب وتنكيل، عاملتهم به قريش، وقد أعطي رسول اللّه ﷺ الراية يومئذ إلي سعد بن عبادة، فلما مر سعد ومعه راية النبِيّ ﷺ نادَي: (يا أبا سفيان!! اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلّ الحرمة، اليوم أذَلّ اللّه قُرَيْشًا). فأطلق سعد بن عبادة هذا الشعار الشديد، الذي أكد الهواجس التي كانت في قلوب القرشيين من أنه الانتقام لا محالة، ولو تحقق ذلك بالفعل لاستقر في وجدان الناس إلي يوم القيامة أن هذا الدين إذا أقبل فإنه يُقبل بالرعب والدماء والثأر والتنكيل والخراب والشقاء، بينما هو في حقيقته لا يأتي إلا بالرحمة والإنسانية، والصفح الجميل، ويرفع قيمة الإنسان إلي أعلي مرتبة، وينفر نفورا شديدا من أن يُطِلَّ علي الناس بمشهد الرعب، كيف لا وهو قد جاء للإنسان والإنسانية جميعا بالأمان والإيمان والعلم والحكمة والبصيرة. وقد وقع هذا الكلام موقع رعبٍ من وجدان أبي سفيان، ولم يكن قد أسلم بعد، لكنه في حيرة شديدة، لأنه - رغم كونه لم يؤمن بعد بمحمد ﷺ، ورغم كونه هو الذي قاد الحرب ضد محمد ﷺ، ورغم كونه أشد الناس عداوة له -، لكنه أيضا علي يقين تام من أن صاحب هذه الرسالة لا يقر بحال من الأحوال رفع راية الدماء، وأنه صاحب الخلق العظيم، وأنه متفرد في كمال أخلاقه، وفي سمو مقاصده، وفي نبل تشريعه. فلما أَقبل رسول الله ﷺ، حتي إذا حاذي أبا سفيان، ناداه أبو سفيان: يَا رَسُولَ اللّهِ أمرْتَ بِقَتْلِ قَوْمِك؟ زَعم سعدٌ ومنْ معهُ حينَ مرّ بنَا قالَ: (يا أبا سفيانَ! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا، وإِني أَنشُدُك الله في قَوْمِك، فَأَنْتَ أَبَرّ النّاسِ، وَأَرْحَمُ النّاسِ، وَأَوْصَلُ النّاسِ)، وما أعجبها من شهادة حق وصدق، وصلي الله وسلم وبارك علي صاحب الخلق العظيم، الذي هو أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم، والذي يفزع الناس إليه للاحتماء به من الملاحم والقتل. نعم، لقtد استقر في وجدان أبي سفيان أن التلويح بالملحمة والدماء والتشفي وإن جري علي لسان أحد أفراد هذا الجيش، لكنه حتما لا يطابق مقاصده ولا أهدافه، واستقر في وجدان أبي سفيان ولم يكن قد أسلم بعد أن هذا النبي الكريم ﷺ أبرُّ الناس، وأنه أرحم الناس، وأنه أوصل الناس. وجاء أيضا عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وقالا: (يا رسُولَ اللّهِ!! مَا نَأْمَنُ سَعْداً أَنْ يَكُونَ منه في قريش صولة)، فهؤلاء هم بقية الحكماء الأتقياء، يستدركون ويخشون من لحظة حماس قد استخفَّتْ صاحب تلك المقولة، وخافوا منه الاندفاع، وسارعوا باتخاذ إجراء يحمي الرسالة السامية لهذا الدين من أن تتلطخ بالدماء، في حين أن هدفها الأمان والإيمان والعمران والحضارة والحياة والإحياء، لا القتل والإماتة. فَقَالَ رَسُولُ اللّه ﷺ: (الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ أَعَزّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشًا)، فأطلق ﷺ الشعار الحق، الذي يعلو به شعار الرحمة والأمان والعزة، ويصحح الصورة، ويعيد توجيه حماس بعض الأفراد واندفاعهم، وأزاح عليه الصلاة والسلام هذا الكابوس النفسي المرعب الذي خيَّم علي نفوس القرشيين، وقد خُيِّل إليهم أن شبح القتل والموت يرفرف فوق رؤوس هذا الجيش القادم، ورأوا أمام أعينهم موقفا حازما وحساسا وعصيبا تحققوا منه أن هذا النبي العظيم بحق وبصدق هو: أبرُّ الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس. ثم أمر ﷺ بتحويل الراية من سعد إلي غيره من الصحابة، وجعل الراية بيد ابنه قيس بن سعد، فكان هذا التصرف الحكيم مشتملا علي عدة إجراءات وحِكَمٍ، منها الإجراء الفوري بتنحية من لوَّح بالدماء والخراب، في موقف حساس، ومنها أيضا تقدير نبل تاريخه، وأنه لا يضيع مجهود عمره الصادق بسبب زلة لسان عابرة، فجعل الراية في يد ابنه، فتطيب نفسه بهذا، وقد تحقق هذا بالفعل، فقد سارع سيدنا سعد إلي تنفيذ ذلك كله، وطاب خاطره بذلك، وأفاق من هذه اللحظة العابرة ورجع كما هو شأنه حاملا لمواريث النبوة ومقاصد الدين التي تُقْبِل علي الناس بالأمان والمرحمة. كل هذا وقد كان التعامل يوم الفتح مع كفار مكة المقطوع بكفرهم، ولهم تاريخ طويل من الاعتداء والحرب والقهر ضد المسلمين، ورغم هذا فقد جعله ﷺ عليهم يوم مرحمة لا يوم ملحمة، وعزل من نادي بجعله يوم ملحمة، والأهم أنه قد كان معروفا من خلقه العظيم ﷺ حتي عند غير المسلمين أنه أَبَرّ النّاسِ، وَأَرْحَمُ النّاسِ، وَأَوْصَلُ النّاسِ. فكيف بنا اليوم أمام تيارات متطرفة، كفَّرت المسلم، وأرعبت غير المسلم، وحملت السلاح في وجه الجميع، ودبرت التفجيرات في مختلف البلدان، وأشاعت الرعب في العالمين، ثم هي تصرُّ وتلح علي أنها تتكلم باسمه الشريف ﷺ، وتصرُّ علي أنها تعبر عنه وعن هديه ودينه وشريعته، والله يعلم إنهم لكاذبون. صلي الله وسلم وبارك عليك يا صاحب الخُلُقِ العظيم، يا من أرسله الله تعالي رحمة للعالمين، يا صاحب الرحمة واللين، والصدق والأمانة، والعفو والصفح، ويشرفني يا رسول الله أن أكتب هذا احتفالا بمولدك الشريف، في أوائل شهر ربيع الأول، الذي تشرف بك، وأطلت فيه علي الدنيا نسائم هديك، لعل الله أن يجعل شهر ربيع من هذا العام، كما كان في عام مولدك، ميلادا للرحمة والأمان، للإنسان والأوطان، وسلام علي الصادقين.