لا يستطيع أي مفكر أو محلل اليوم أن يقيم ما جري تقييما موضوعيا، لأن ما جري لا يزال يجري ولم يتوقف بعد. لكنني أستطيع أن أدلي بملاحظات علي ما جري منذ صباح 25 يناير الماضي وحتي صباح الأحد 6 فبراير وهو وقت كتابة مقالتي هذه. هذه الملاحظات في رأيي ستفيد في التحليل النهائي الموضوعي والعلمي. والأيام القادمة حبلي بالمزيد من الأحداث، التي نرجو لها أن تكون كلها خير علي مصرنا، مما سيضيف مزيدا من الملاحظات بالطبع. يمكن تلخيص ملاحظاتي فيما يلي وبدون ترتيب في الأهمية. فحتي هذا الترتيب يحتاج الي توقف الأحداث وابتعاد المسافة الزمنية بينها وبين الكتابة: 1- أذكر أنني كررت عبارة »القادم أسوأ« في بعض من مقالاتي علي مدي السنوات القليلة الماضية. لكني لم أتوقع أن يأتي »الأسوأ« محملا ب»الأفضل« في الوقت نفسه. ولولا دور القوات المسلحة العظيم لكان »الأسوأ« بلا حدود. وسوف أعود إلي هذا الدور تفصيلا. كما لم أتوقع، ولم يتوقع غيري، أن تأتي »ثورة الغضب« بكل هذه السرعة وكل هذا الاجتياح. وما أتي بالفعل رغم كل ما حمله من »أسوأ« لم يكن متوقعا حجم سوئه المريع، حمل أيضا خيرا جللا. فكما كتب غيري بحق: مصر بعد 25 يناير ليست كمصر قبله. تمثل هذا الخير الجلل في تغيير جذري بدأ بالفعل في الوطن كله، وبخاصة في بنيته الفوقية الدستورية والسياسية والتشريعية والتنفيذية. هذا التغيير الجذري غير وارد بالمرة بدون تضحيات جسيمة. هكذا علمنا التاريخ ولا يزال يعلم. لكننا، جميع المصريين بالطبع، كنا نتمني ألا تصل التضحيات الواجبة للتغيير الي هذا الحجم المهول. وقد حدث تغيير مماثل في دول أخري لم يصل فيه حجم التضحيات بمثل ما ضحينا به. هذا راجع أساسا لاختلاف طبيعة الدولة والمجتمع والظروف الداخلية والخارجية المحيطة. أرجو أن أعود إلي تحليل هذه الملاحظة تفصيلا فيما بعد وفي حينه المناسب. 2- كانت ظواهر الماضي القريب والحاضر تدل علي تآكل في مؤسسات مهمة وأقل أهمية عديدة، واختلال جسيم في القيم، وانتشار واسع لثقافة الفساد فكرا وسلوكا في جميع الفئات والطبقات. لذلك كان لابد منطقيا أن تكون النتيجة كارثية. كان غيري وأنا من الكتاب يقرأ ظواهر الواقع ويحذر من نتائجه الوخيمة في المستقبل القريب. لكن يبدو أن غيرنا لم يكونوا يقرأون الواقع بمثل ما كنا نقرؤه. ولا يشعرون بما كنا، مع غالبية المجتمع، نشعر به. 3- كما يبدو أنهم لم يكونوا يعرفون خصائص عالم شباب اليوم بالذات وعلاقته بباقي فئات وطبقات المجتمع، وعلاقته بأحداث الواقع داخليا وخارجيا. وعلي الرغم من ظهور علامات موضحة لكل هذه الخصائص والعلاقات ظهرت أحيانا كطلقات الضوء، وتجلت أحيانا أخري كأضواء لحرائق صغيرة، فقد استمرت المؤسسات المعنية في عدم اهتمامها الاهتمام الواجب أو في تعاميها عن هذه العلامات. وقد قصرت مؤسسات الدولة المعنية تقصيرا شديدا في دراسة هذا الشباب دراسة متعمقة تكشف ما تحت السطح الظاهر وتحلله التحليل العلمي الواجب. فقد كان هذا الشباب مثل قمة جبل الثلج الذي لا يعرف قاعه. واكتفت هذه المؤسسات بالتعامل السطحي مع هذا السطح. فكان من الطبيعي أن نصحو علي كارثة جامعة. وحتي عندما أدركت الدولة أهمية وسائل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة بالنسبة إلي الشباب، واستخدامها لهذه الوسائل في اتصالاتهم وتحركاتهم كان رد الفعل خاطئا تماما. وقد رأينا ذلك في المسارعة بقطع خدمات مواقع الاتصال علي الإنترنت ثم قطع خدمات الإنترنت كلها مع شبكات التليفونات المحمولة، ظنا بأن هذا القطع سوف يحجم ثورة الغضب. وكما رأينا استعاض الغضب بوسائل إعلام أخري، هي الوسائل التقليدية من قنوات تلفزيونية مصرية خاصة وقنوات غير مصرية، وصحف مصرية حزبية وخاصة. وشبكة التليفونات الأرضية التي لم يكن من الممكن قطعها. كما عوضت شركة »جوجل« قطع الانترنت بالاتصال هاتفيا من تليفون أرضي بموقع "تويتر". فلم يعد الغضب في حاجة إلي خدمات الإنترنت والمحمول. فضلا عما حدث من اشتعال ذاتي للغضب أشبه بتفاعل المواد القابلة للاشتعال مع درجات الحرارة المرتفعة. لذا لم يجد المسئولون بدا من إعادة خدمات الإنترنت والمحمول رغم تصاعد ثورة الغضب. 4- لم تكن ثورة الغضب التي انتشرت في المجتمع المصري منذ 25 يناير الماضي في حد ذاتها هي الكارثة. لكن الكارثة هي ما أحاط بهذه الثورة من أعمال عنف وصلت الي القتل العمد وسقوط مئات القتلي وآلاف الجرحي، وعمليات واسعة للسرقة والنهب، وبخاصة في المناطق الأثرية، والحرق والتدمير والتخريب، وبخاصة في المتحف المصري، وفتح للسجون وترويع المواطنين لم تشهدها مصر طوال تاريخها منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة مع الوالي محمد علي باشا، ولا تواكبت مع أحداث ثورتين كبيرتين هما ثورة 1919 و 1952. ويمكن القول أيضا إن اتساع نطاق مظاهرات ثورة الغضب ومدتها الزمنية لم تشهدهما مصر في تاريخها الحديث من قبل. لقد منعتني، كأحد ابسط الأمثلة، هذه الأعمال الإجرامية من كتابة مقالتي في الأسبوع الماضي. وكتبت اعتذارا لزميلي العزيزين ياسر رزق رئيس التحرير ومصطفي بلال مدير التحرير قلت فيه »قضيت طوال الليالي الماضية في حراسة منزلي وأسرتي مع باقي جيراني كما يفعل كل المصريين. لم يترك لي المخربون وأعداء هذا الوطن وأعداء أنفسهم فرصة لأكتب فيها معبرا عن حبنا لبلدنا وحرصنا عليها. الملايين من المصريين يفدون بلدهم بأرواحهم وقلة مجرمة مريضة من حثالة الزمن يفدون أنفسهم بأرواحنا. أكتب هذه الكلمات صباح اليوم علي عجل وأنا متوجه لعملي لكي اطمئن علي جزء من ممتلكات مصر وباقة من العاملين من أجلها. لك يا مصر السلامة، وسلاما يا بلادي«. 5- كان من الممكن أيضا أن تقوم ثورة الغضب ولا تحدث الكارثة. ذلك لأن الثورة التي بدأها الشباب كانت ثورة احتجاج صارخ مسالمة ولم تكن انقلابا عسكريا أو شبه عسكري. ولم تقم بها جماعات مسلحة بأي نوع من السلاح. كان يمكن لهذه الثورة أن تنجح كما نجحت ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 التي غيروا بها جمهورية الزعيم الفرنسي الوطني شارل ديجول، الذي قاد تحرير فرنسا من الغزو النازي في الحرب العالمية الثانية. لم تنجح ثورة مايو الفرنسية بالطلاب وحدهم، فقد انضم إليهم العمال وكتاب وأدباء وفنانون وصحفيون ومهنيون، وساد فرنسا إضراب عام عفوي استمر لعدة أيام. وسيطرت لجان شعبية علي كثير من المباني التي تملكها الدولة. وتوقفت حركة السكك الحديدية. ثم نجحت الثورة دون أن تخلف كارثة مثلما حدث مع ثورة الغضب في يناير 2011 في مصر. أتصور أن المقارنة بين الثورتين في فرنسا وفي مصر واجبة ومفيدة ضمن فهم الواقع واستيعاب دروس التاريخ. وأرجو أن أعود لهذه المقارنة مفصلا. لكنه مبدئيا يمكن القول إن هناك فارقين أساسيين بين الثورتين: الأول أن ثورة الغضب في مصر كانت عفوية إلي حد كبير وبلا قيادة. بينما كانت ثورة الطلاب الفرنسية منظمة ولها قيادة معروفة هو " دانييل كون بنديت ". وقد أصبح " بنديت " فيما بعد زعيما لحزب الخضر الأوربي وعضوا في البرلمان الأوربي منذ 1994. الثاني: لعبت عوامل الديموقراطية والشفافية والاستقلال الفعلي للسلطات الدور الأبرز في الاختلاف بين الثورتين. وهما العاملان نفسهما اللذان عصما دولا أخري عن الوقوع في الكارثة التي واكبت ثورة الغضب المصرية. علما بأن ثورة مايو 1968 حدثت في فرنسا أم الديموقراطية الحديثة في العالم، التي بدأت هذه الديموقراطية الحديثة بعد ثورة أخري مثال في العنف الدموي البالغ، وهي الثورة التي اندلعت عام 1789. لك يا مصر السلامة، وسلاما يا بلادي. وإلي الأسبوع القادم إن شاء الله.