هل تحولت حياتنا إلي بحر متلاطم من الكلام، هل هذا هو الشيء الخفي الذي دفع الآلاف من شبابنا إلي الطرق المسدودة وإلي منتهي اليأس والاستسلام، إننا سلمنا حياتنا إلي الذين يجيدون الثرثرة والجدل العقيم، فلقد استبدل الإنسان في بلادي منامه بالحروف المدغدغة وأشعل يقظته بالحروف المركبة من كل ما يبدد الجهد ويضيع الوقت، لقد تأكدت الآن أننا بحاجة إلي الصمت الذي لا بديل عنه لعلاج هذا المرض العضال، وأشعر أن قارب النجاة الذي أشاروا به بين غثاء الكلام مثقوب من كل جانب ليس فيه إلا الندب والعويل والبكاء علي الأطلال، نعم استبدلنا بخير الكلام وما دلّ منه بالذي هو أدني، وأخذنا نصرخ بغير توقف، هل هذا هو الأمل المنشود الذي صبرنا علي انتظاره وأضأنا القلوب بشيء ضئيل من الرجاء لكي يأخذنا إلي عالم جديد نقف فيه علي أعتاب الحياة بما تحمل من معاني الارتقاء والسعادة، إنني أبحث عن ذلك الشيء البعيد فيما أضعنا من الأشياء الثمينة والقيم النبيلة، نحن أمام وجهين لسقيم واحد من أمامه الفساد ومن خلفه كثرة الكلام، ولا شيء من فعل يحوّل حياتنا إلي تلك المعاني التي يرجوها أي بشر في أي مكان، وهل يعقل أن يصير الإنسان جسداً من العذاب نقلبه صباحاً علي كلام، ونعيده مساء علي كلام، وننصب له مشانق الكلام، وننفيه عن ذاته بنفس الوسائل من الكلام، لقد احترت في هذا المشهد غير المسبوق فلدينا مئات القنوات الفضائية ولدنيا مئات البرامج الكلامية، وعندنا أناس ممتازون في إدارة المعارك تحت راية الحوار، وهم لا يألون جهداً في تكرار الضيوف، ويمكن أن نري الوجوه نفسها في ساعة واحدة في قنوات متعددة، ولكن يكون الكلام مختلفا، وليس بينهم تشابه حتي في مخارج الألفاظ، نعم لدينا غابة كثيفة من الأسماء التي تلم بآلام الإنسان من المحيط إلي الخليج، وتعرف كيف توظف الأحداث وتصنع شيق القصص من أجل أن يظل الناس مربوطين بأحبال ألف ليلة ومسحورين بالفوانيس السحرية، وأحاديث الجن وأقاويل العرافين، وكل ما يجعل الحياة دوامة لا يفيق منها الغفاة إلا مع صحوة الموت ورجفة الأرض من تحتهم، إننا أضعنا قضايانا المصيرية في غمار الكلام والأحاديث الفارغة، وفرغنا نفوسنا من القيم، والآمال الكبار أولاً بأول، صار الكلام لغواً ولهواً ومشيئة بيد الأعداء، يلقون لنا طعم الحرف فننجرف وراءه كالسيل العرم، نتدافع بأفواهنا، ونتعارك بألسنتنا، ونلوك أعراضنا ونمضغ تاريخنا ونسحق قامتنا العزيزة بأسناننا، هل في ذلك شك أو ريب أو ظنون، لقد راحت منا أوقات ثمينة، وتركنا حرفة الصيد التي يتعلمها كل البشر لكي يعيشوا بكرامة العاملين وفي درجات الصادقين، أهدرنا أعظم قيمة نزلت مع الإنسان إلي الأرض، ونسينا أن الأنبياء كانوا يأكلون من عمل اليد، وليس من اللسان، باتت حياتنا تسلية وقصصنا من العراء حتي سقف البيوت ملهاة الجالسين علي الأرائك خلف الكاميرات، يبحثون عن حلول فيتحول الإنسان إلي مادة من البهارات علي مائدة برامج الكلام، اعذرونا يا أصحاب الكلام واختاروا من بينكم من يعلم هذا الشعب الصيد من جديد، ومن يقلل الكلام، حتي يستطيع هذا الإنسان المكدود أن ينام، ويستيقظ مع الطير مبكراً، علموا هذا الشعب أن يقلل الكلام وأن يكون كلامه عملاً وأن يكون عمله متقناً بحجم ما كان من كلام.