اننا في أمس الحاجة إلي حضور الدولة القوي بكافة مؤسساتها لحماية الوطن لعلها المرة الأولي في حياتي التي أشعر فيها بالخطر الحقيقي، بعد حادثة الإسكندرية، ما كنا نتنبأ به حول ظهور اخطار تتهدد وحدة الوطن أصبح حقيقة واقعة. بعد ان اتسع الشرخ في المجتمع وبلغ العمق، أي مس العصب، الأسباب عديدة، منها عملية الشحن الطائفي المستمرة منذ عقود أربعة، وصلت إلي أعلي مستوي في الثمانينات عندما قال الرئيس السادات تصريحه الخطير: »أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة« والصحيح انه رئيس مصري لدولة مصرية، لكنه كان استمرارا لإدخاله الدين في اللعبة السياسية منذ توليه السلطة وإطلاق لقب »الرئيس المؤمن« بما يعني ضمنا ان من سبقه كان كافرا، وتم استخدام الجماعات الإسلامية لتصفية المجموعات اليسارية في الجامعات والمجتمع، وبرزت وجوه الفتنة خلال تلك الحقبة، مثل محمد عثمان اسماعيل في أسيوط الذي كان يخطب قائلا: ان اعداء مصر ثلاثة، الشيوعيون، والأقباط، واليهود، ثم دبر من خلال موقعه في الاتحاد الاشتراكي وقتئذ مذبحة الرابع من فبراير التي فصل بموجبها مائة وأربعة من الصحفيين وأكبر كتاب مصر، بدءا من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ -تم اخفاء اسميهما من القائمة- إلي اسماء صحفيين كانوا مازالوا في بداية الطريق، أذكر انني كنت رقم ثلاثة وعشرين، وكنت اشغل تخصصا حساسا في جريدتنا »الأخبار«، كنت محرر الشئون العسكرية.. وفي يوم أحد أستيقظت لأجد اسمي بين من أطلق عليهم المنحرفين، وكانت القائمة تضم اثنين من المحررين العسكريين المخضرمين. عبده مباشر وفاروق الطويل، شهدت السبعينيات تصاعد التطرف والذي انتهي بحادث المنصة، من أطلق الجني من القمقم حصد ثمار عمله، خلال السبعينيات اتجهت التنظيمات المتطرفة إلي مؤسسات الدولة، وتمكنت من اختراق التعليم الذي شهد تحولات خطيرة، ليس علي مستوي سلوك الأفراد ولكن من خلال المناهج التي يتم تدريسها والتي استهدفت الاقباط باعتبارهم كفارا، هكذا نشأ جيل كامل يتشبع بالأفكار المتطرفة والتي جاء معظمها نتيجة المذاهب الوافدة وأخطرها الفكر الوهابي الذي وجد مرتعا له في الفضائيات التي تمارس تأثيرا واسعا علي الجماهير، خاصة غير المتعلمين أو الذين لم ينالوا حظا كافيا منه، خلال التسعينيات بلغت موجة الإرهاب ذروتها، وقد تولت أجهزة الأمن بمساندة قوية من المثقفين مقاومة هذه الموجة وانقاذ مصر منها، لكن في نفس الوقت كانت الوسائل الأخري ذات الفاعلية البطيئة. بعيدة المدي، خاصة في التعليم والإعلام، كانت هذه الوسائل تؤتي ثمارها التي تتلخص في تعميق الهوة بين المسلمين والاقباط، خلال هذه الفترة. عرف المجتمع المصري جملة مشكلات مثل انتشار الفساد، وتصاعد البطالة، وانسداد أبواب الأمل، جميع هذه المشكلات صبت في الشرخ الطائفي وأدي هذا إلي ظواهر جديدة علي تعايش المصريين، وما عرفته عن توابع انفجار إسكندرية اخطر من الانفجار نفسه، ولكم كان شيخ الأزهر عظيما في حواره مع الإعلامية القديرة مني الشاذلي، وهو يشير إلي ظاهرة المواجهة بالعمارة، مسجد في مواجهة كل كنيسة، في الظروف العادية وقبل تعمق الفتنة كنا نضرب المثال علي التآخي بتعانق البرج مع المئذنة، وكثيرا ما صحبت الأصدقاء إلي حارة الروم لأطلعهم علي المنشآت الكنسية الأربع الموجودة في قلب الباطنية، وعلي بعد امتار من الأزهر، هذه الكنائس ظلت في أماكنها لم يلحقها أذي، وكان بينها مقر البطريركية حتي انتقاله قبل مجيء الحملة الفرنسية إلي الأزبكية، ثم في عهد الرئيس جمال عبدالناصر أصبح في العباسية وقد أصدر الرئيس عبدالناصر قرارا بالتبرع بالأرض، وتخصيص مبلغ من الدولة كمساهمة ومؤازرة، مع تصاعد التطرف وتعميق الهوة أصبح بناء مسجد في مواجهة كنيسة ليس بهدف اظهار التآخي، انما المضايقة، وفي حارة الروم التي كنت اضرب بها المثال جري الأمر نفسه، اذ اشتري البعض المنازل المواجهة وحولوها إلي مسجد شاهق المئذنة، تطل علي دير الراهبات والكنائس الأخري. مع مراعاة ان الحارة ضيقة جدا، لا تتسع لمرور عربة يد، النقطة الثانية التي اشار إليها الإمام الأكبر الأسباب الحقيقية لتأخر صدور الحكم في قضية نجع حمادي، ان خطاب الإمام الأكبر الجريء والذي يحدد مكامن الجراح هو ما نحتاج إليه، المواجهة الصريحة، اننا في حاجة إلي تحديد هوية الدولة. دينية أم مدنية؟ لنواجه ذلك بصراحة، الدولة المدنية التي بدأ تأسيسها في عصر محمد علي تقود مصر إلي النهضة، الدولة الدينية ستقودها إلي الخراب، أعرف ان بعض النخبة يعتقدون الآن في الدولة الدينية، لا تعنيهم وحدة مصر التاريخية، انما يعنيهم الحكم باسم الدين حتي لو علي أشلاء ممزقة، وأمامنا نموذج حماس التي اضاعت القضية الفلسطينية من أجل الإمارة في غزة، بعض الذين كانوا يوصفون بالحكماء في مصر يؤازرون الدولة الدينية والتطرف، ومنهم من يشتط حتي ليمهد بمواقفه للأعمال الإرهابية، والتصريح الخطير بوجود أسلحة وذخائر في الكنائس مثال دقيق، لقد أطلق صاحبه التصريح المحرض ليحدث أثره، وحاول فيما تلي ذلك التراجع عنه باتخاذ مواقف مضحكة، مثيرة للسخرية، مثل المطالبة بمحاكمة الدكتور محمد البرادعي لانه التقي بناشطين نوبيين في بيته!!. ان تطرف جزء من النخبة مصيبة وان كان غالبية المثقفين مازالوا يشكلون حائطا منيعا ضد الإرهاب، اننا في حاجة إلي عودة الدولة المصرية القوية بشدة نحتاج إلي دولة لا تتراخي في مواجهة صناع الفتنة سواء كان ذلك بالكلمة أو القنبلة، نحتاج إلي دولة لا تبقي علي نصوص دستورية أو قانونية تكرس التمييز. لا أبالغ إذا قلت ان بديل افتقاد هذه الأسس هو الخراب، وتفتت هذا الكيان الذي عاش آلاف السنين، انه الخطر الحقيقي والذي لم أعرفه في جميع مراحل التاريخ المصري. مكتبة الجامعة الثلاثاء : إذا ما ذكرت مكتبة جامعة القاهرة فان اسم نجيب محفوظ يرد عليّ فورا. بعد تخرجه عام أربعة وثلاثين من القرن الماضي التحق بها لمدة عامين حتي نقله الشيخ مصطفي عبدالرازق استاذه إلي وزارة الأوقاف، ما من مفكر أو أكاديمي بارز إلا وقضي من عمره جانبا فيها، ولو ان الجامعة أعدت قائمة بمن ترددوا عليها من النوابغ فستحتاج إلي مساحة كبيرة حتي يمكن الاستيعاب، المكتبة تعتبر مركزا لذاكرة الجامعة ودورها التاريخي، الاسبوع الماضي زرت المكتبة لأقف علي حقيقة ما يثار حول تعرض المكتبة لظروف قد تؤدي إلي الاخلال بدورها ولا تتسق مع تاريخها الحافل، أول ما لفت نظري لافتة مكتوب عليها »مكتبة كلية الآداب« وهذا خطأ جسيم، فأن تتبع مكتبة الجامعة التراثية بكل ما تحوي احدي الكليات هذا الغاء لذاكرة الجامعة ولدور المكتبة التاريخية، ارتقيت السلالم المؤدية إلي داخل المبني الجميل، الذي شيد علي طراز عصر النهضة الايطالي، وهو ثالث مبني يتم بناؤه بعد الحرم وبرج الساعة الشهيرة، تم وضع حجر الاساس عام 7291، واكتمل تشييده عام 1391، وتلي ذلك اعداده بواسطة شركة ايطالية متخصصة زودته بالارفف المعدنية، ومصاعد صغيرة تحقق الاتصال بين طوابق المبني التي احتوت علي فكرة معمارية عبقرية، من الداخل نجد ستة طوابق، ومن الخارج ثلاثة، انه المبني الوحيد -بعد دار الكتب في باب الخلق- الذي صمم ليكون مكتبة، ولا يصلح لأي غرض بخلاف ذلك، انني أتوقف أمام هذه النقطة لأن ما يتردد الآن ان كلية الآداب تعاني زحاما وتكدسا في مكاتب الاساتذة، وان الرغبة قائمة في اخلاء جزء من المكتبة ليصبح مكاتب إدارية للاساتذة، وإذا صح ذلك فان هذه الخطوة لا تليق بجامعة القاهرة، ولا بكلية الآداب العريقة، ان يقتطع جزء من المبني ويخصص للعاملين من أساتذة وموظفين، العكس هو المفروض ان يحدث، ان تقتطع مساحات من مباني كلية الآداب لتتسع للكتب التراثية التي تتراكم في مكتبة الجامعة، أمضيت ثلاث ساعات اتجول في أقسام المكتبة، واتأمل بعض العناوين فيها، والحق انني ذهلت من مدي فرادة المكتبة بالنسبة لتصميمها وعمارتها واقسامها الداخلية وطرق حفظ الكتب، وإذا كان المحتوي المنظم لها فريدا الآن فان المضمون أكثر فرادة، رأيت كتبا لاتوجد في أكبر مكتبات العالم، بدءا من القرن السادس عشر الذي ظهرت فيه المطبعة، ونسخ نادرة من أهم كتب المصريات باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، أما اللغة العربية فنجد أوائل المطبوعات العربية، منذ ظهور الطباعة اوائل القرن التاسع عشر ومنها المزامير المطبوع بالسريانية والكرشونية في لبنان سنة 0161، علي يد رهبان دير قزحيا. كما تحتوي علي نفائس المخطوطات في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان، اضافة إلي مجموعة نادرة من المصاحف النادرة، وتحتوي علي أكثر من 002 عنوان لصحف ومجلات ودوريات صدرت في القرن التاسع عشر، أما قسم الخرائط فيحتوي علي أكثر من 008 خريطة وأطلس نادر، وأخيرا مائة وثمانين ألف عنوان من أندر الكتب في سائر اللغات، اننا أمام مكتبة دولة وليس جامعة فقط، فكيف تضم إلي كلية؟ أيضا يتناقض هذا مع ما أعلنه العالم الجليل الدكتور علي رأفت أمام السيدة الفاضلة سوزان مبارك أثناء افتتاح المكتبة الجديدة للجامعة والتي تضم ما صدر بعد عام 5591. وان تخصص هذه المكتبة للتراث النادر الذي تحويه ،أغرب ما عاينته في المكتبة وجود غرفة مغلقة، علمت ان الدكتور محمود المناوي يتحفظ فيها علي عدة آلاف من المخطوطات وثمة تعليمات تقضي ألا تفتح إلا بمعرفته، ولا أظن ان هذا وضع طبيعي، فمهما بلغت مكانة العالم المحترم الدكتور المناوي فالمخطوطات المتحفظ عليها ليست تابعة لسيادته، ولو ان انشتين أو جاليليو في مكانه لما اكتسبا هذا الحق الغريب. الحقيقة ان الأوضاع مزعجة، لقد حملت هذا كله إلي الصديق، العالم الجليل الدكتور حسام كامل رئيس الجامعة، أكد لي ان المكتبة لن تمس، وان محتوياتها يجري لها عمليات ترميم واسعة ودقيقة، وان المبني سوف يتم ترميمه، انني أثق بالرجل ولكن أصارحه ان استيلاء كلية الآداب علي أي مساحة من المبني انتقاص منها، ولماذا تتبع المكتبة الكلية، المكتبة ذاكرة الجامعة ومركز تراثها، لقد علمت بالأمس فقط ان الموظف الجديد الذي تولي أمور المكتبة بدأ التنكيل بالعاملين الذين نشطوا للفت الانظار إلي ما يهدد المكتبة، وان مقاولا غير متخصص بدأ عمله بالفعل في ترميم المبني الاثري، انني آمل من الدكتور حسام كامل اتخاذ خطوات تؤكد استقلالية المكتبة التراثية، وإلغاء أي ضم لكلية الآداب، وابراز مضمونها وقيمتها الرفيعة. تلك الجامعات الخميس : منذ سنوات التقيت مجموعة من التجار ذوي الاصول الصعيدية، بعضهم أمي لا يعرف القراءة والكتابة، لكنهم عملوا في مجالات مختلفة، وجمعوا ثروات بالملايين، حدثوني عن رغبة بعضهم في إنشاء جامعة باحدي محافظات الصعيد، وعندما تساءلت عن سر حماسهم ومعظمهم لم يتلق تعليما وليس له خبرة بالأمور التعليمية، اجابوني قائلين.. »روح.. انت ما تعرفش حاجة، دا أكثر مشروع بيكسب، كفاية انك بتأخذ المصاريف من الأهالي مقدما..« فعلا، أنا ما أعرفش حاجة، أعترف بجهلي في مواجهة الجهل الذكي، تذكرت الحوار عندما قرأت في احدي الصحف ان جامعة خاصة دفعت للضرائب ثلاثة وثلاثين مليونا من الجنيهات عن أرباح العام الماضي، إذا كانت الضرائب هكذا فكم تبلغ الأرباح؟ طبعا الشكر واجب لأصحاب هذه الجامعة، لانهم سددوا الضرائب مبكرين، ولكن انتشار مثل هذه الجامعات التي قامت لأغراض استثمارية أمر يحتوي علي أمور خطيرة. فلدينا الآن جامعات شتي تحمل اسماء ضخمة، وتلك مبالغة مصرية نلمحها في جوانب شتي، بدءا من مقهي متواضع علي الطريق الزراعي يعلق لافتة مكتوب عليها »كازينو مونت كارلو السياحي«، بعض هذه الجامعات لا ترقي إلي مستوي مدرسة ثانوية في النظام التعليمي الذي كان سائدا حتي الستينيات ومع ذلك تسمي بالاكاديمية، لدينا الآن خليط من الجامعات متعدد الاهداف، وباستثناء الجامعة الأمريكية العريقة، والجامعة الفرنسية، فان الجامعات الاخري معظمها غامض، وإذا عرفنا انها مشروعات استثمارية لرجال أعمال لم تكن لهم صلة بالعملية التعليمية، فسنجد ان هذه الجامعات في معظمها خارج السياق، يجيء ذلك في وقت يتراجع فيه مستوي الجامعات التابعة وزارة التعليم العالي، ومنها جامعات عريقة كان لها سمعة علمية رفيعة في العالم، ولكنها تدهورت الآن. ان تحول العملية التعليمية إلي مشاريع استثمارية كارثة ثقافية، ولنتخيل الواقع بعد عشر سنوات، عندما يصبح لدينا خريجون من مختلف الاطياف، معظمهم لا يتقنون اللغة العربية، ودرسوا مناهج مشوهة، كيف يمكن تلبية طلبات المجتمع من الكوادر العلمية في التخصصات المختلفة مع وجود هذه الجامعات الوهمية في قيمتها والتي ترفع لافتات تحمل اسماء براقة، وفي جوهرها مشاريع استثمارية لتجار الخردة والسوق السوداء! من ديوان الشعر العربي داء يا ويح اهلي، أبَلي بين أعينهم علي الفراشِ ، ولا يدرون ما دائي أبو نواس صبا تذكرتَ أياماً مضين من الصبا وهيهات هيهات إليك رجوعُها الاحوص الأنصاري