كتبت في الأسبوع الماضي مقالتي بعنوان: »المصريون ليسوا بخير« عن زحف التردي علي المصريين. وأشرت الي نظرة »نصف الكأس« التي تري الفراغ فيه ولا تري الماء. بمعني تناول السلبيات فقط دون الإيجابيات. ولكي أثبت أنني أجتهد في أن أري الكأس كله أتحدث اليوم عن عالم مصري جليل هو الأستاذ الدكتور خالد عبد القادر عودة أستاذ الحفريات وطبقات الأرض في كلية العلوم بجامعة أسيوط. وقد أشرت إليه هنا من قبل بمناسبة عرضي للفصل الخاص بمشروع منخفض القطارة في موسوعته العلمية الرائدة ذات المجلدين: »أطلس مخاطر التغيرات المناخية علي السواحل المصرية والسياسات الدفاعية الواجبة«. كتبت عنه ولم أكن قد التقيت به بعد. ثم اقترحت علي الأستاذ الدكتور محمد رجائي لاشين أمين مجلس علوم البيئة بأكاديمية البحث العلمي دعوته لعرض ومناقشة أطلسه في اجتماع المجلس الذي تم يوم الثلاثاء الماضي. وكانت هذه أول مرة أراه فيها. تحدث وشرح معلوماته وآراءه فازداد إعجابي به. وبحثت أكثر عن عطائه العلمي فازداد تقديري له. وهاكم ملخصا قصيرا: يعلم القارئ بلا شك أن مصر تطل علي بحرين : الأبيض المتوسط في الشمال والأحمر في الشرق. المدهش أن طول الساحل المصري علي كلا البحرين متساو تقريبا وهو حوالي 1100 كم. أي أن لمصر شواطئ بحرية تصل الي ما يقرب من 2200 كم. تصوروا ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين أنه لم يكن لهذه الشواطئ المصرية خرائط طوبوغرافية حتي قام الدكتور خالد عودة بإعدادها بمجهوده الفردي، بديلا عن مؤسسات كان عليها القيام بها؟ هكذا علمت بدهشة كبيرة. (الخريطة الطوبوغرافية باختصار توضح كل المظاهر الموجودة علي سطح مساحة جغرافية معينة). أما هذه الشواطئ التي لم تجد مؤسسة تعد خرائطها الطوبوغرافية فقد وجدت مؤسسات عدة لتقسيم معظم مساحاتها، إن لم تكن كلها، والبناء عليها أو إعدادها للبناء. من هذه الشواطئ ما هو منخفض عن مستوي سطح البحر. ولم تقم هذه المؤسسات برفع مستواها قبل عمليات البناء. هذه الشواطئ المنخفضة ستغرق عند زيادة منسوب سطح البحر. وهذا أمر مؤكد طبقا لما يقوله العلماء. أي أن هذه المؤسسات التي تسعي حثيثا وراء الكسب المادي ترتكب جريمة في حق الوطن عندما تغرق هذه الشواطئ بما عليها من مبان. مؤسسات الوطن تلك لا تعرف العلماء، ولا تسعي إلي معرفتهم والاستفادة منهم. ولا تجد من يحاسبها علي أخطائها. بل إن مؤسسات العلماء نفسها تعاني من الإهمال الذي قد يصل الي حد الإنكار. وسوف أعود تفصيلا إلي هذا الجانب فيما بعد إن شاء الله. والأستاذ الدكتور خالد عبد القادر عودة قام بعمل علمي جليل آخر، ليس لمصر وحدها، بل للعالم أجمع. فقد كان المصري الوحيد الذي شارك في الفريق العلمي المنبثق عن الاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجية لدراسة تتابع ترسب طبقات الجبل الشرقي المطل علي قرية " الدبابية " جنوب مدينة الأقصر ب 35 كيلومترا فقط. هل سمعتم عن الدبابية من قبل؟ أنا شخصيا لم أسمع. فما أهميتها لكي يأتي إليها علماء حفريات وطبقات وجيوكيمياء وجيوفيزياء من الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والسويد وبلجيكا والدانمارك وهولندا وألمانيا وحتي هونج كونج بالإضافة إلي عالمنا المصري؟ أهميتها أنها المنطقة الوحيدة علي الكرة الأرضية التي تحوي أكمل طبقات الأرض التي ميزت الفترة الانتقالية بين العصرين : الباليوسين والأيوسين وهما - بتبسيط شديد - عصران مرت بهما الكرة الأرضية منذ أكثر من 55 مليون سنة. وتبلغ مدة هذه الفترة الانتقالية وحدها حوالي 4،2 مليون سنة!! وما أهمية البحث العلمي في تلك الفترة الانتقالية علي عالم اليوم؟ لكشف غموض أحداثها أولا. ولأهمية هذه الأحداث في التغيرات الجيولوجية والحياتية والمناخية علي الكرة الأرضية. فالاعتقاد السائد بين العلماء أن فترة الحرارة القصوي بين هذين العصرين تمثل البداية الحقيقية لظهور أسلاف الكائنات الحية التي نعرفها اليوم كالحيوانات آكلة العشب وآكلة اللحوم والقردة الأولي والزواحف والطيور والنباتات. والأهم بالنسبة لنا اليوم أن معرفة تفاصيل تلك الفترة تلقي الضوء علي نتائج وتداعيات الارتفاع المستمر في حرارة الأرض التي بدأنا نعاني منها حاليا. تصوروا أن كل هذا العلم لن يأتي إلا من دراسة منطقة »الدبابية« في صعيد مصر؟ وضع الاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجية شروطا يجب أن تتوافر في منطقة الدراسة أهمها الكمال الطبقي والبعد عن تأثيرات الحركات الأرضية والتغيرات اللاحقة علي الترسيب وأن يسهل الوصول إليها، وتكون ذا سمك معقول وتتوافر فيها الأحياء الحيوانية والنباتية وقابلة للتحليل والتأريخ باستخدام النظائر المشعة، وأن تكون كذلك آمنة.. تصوروا أن هذه الشروط لم تنطبق -بعد عشرات الملايين من السنين- علي منطقة في العالم غير منطقة الدبابية في مصر !! سبحان الله. وما زلنا لا نعرف قيمة بلدنا. وما زلنا نستهتر ونهمل وندمر عمدا وجهلا ما نعرفه وما لا نعرفه. أجانب يعرفون قيم هذا الوطن الحقيقية أكثر منا. ف »ذو العقل يشقي في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم« كما قال المتنبي أعظم شعراء العرب. كان للعالم خالد عودة الفضل في اكتشاف توافر الشروط السابقة في منطقة الدبابية. قاد فريقا علميا من قسم الجيولوجيا في جامعة أسيوط لمدة خمس سنوات من يناير 1999. ضم هذا الفريق كلا من الأساتذة والدكاترة مصطفي يوسف وناجح عبد الرحمن وممدوح فراج والجيولوجيين أيمن عبد الصبور ووائل فتحي. استمر هذا الفريق العلمي، وليس الكروي لحسن الحظ، بلا ضجيج إعلامي حتي تم التصويت الدولي في فبراير 2002 علي اختيار هذه المنطقة للدراسة. وفازت الدبابية علي 29 منطقة أخري تم ترشيحها في دول أخري في قارات أوربا وأمريكا وأفريقيا وآسيا. واعتمد الاتحاد الدولي هذا الاختيار في أغسطس 2003 تتويجا للجهد العلمي الذي بذله الفريق المصري الجيولوجي بالتعاون مع الفريق الدولي، وللجهد المادي والمعنوي الذي بذلته جامعة محافظتي »أسيوط«. وتكلل هذا الاعتماد بقيام المتحف الأمريكي للعلوم الطبيعية بنيويورك، بدعم من مكتب اليونسكو بالقاهرة، بنشر أول مجلد علمي مصري أمريكي مشترك في علم الطبقات برئاسة تحرير خالد عودة من مصر وماري أوبري من جامعة » روتجرز« بنيوجرسي في أمريكا. وضم المجلد الدراسات التي تمت في جنوب مصر ونتائجها العلمية بما في ذلك خصائص التتابع النموذجي بقرية الدبابية الذي اصبح منذ أغسطس 2003 أول وحدة زمنية جيولوجية يتم اعتمادها خارج أوربا منذ نشأة علم الجيولوجيا. كما أسفر كل ذلك عن تحويل منطقة الدبابية الي محمية طبيعية بقرار من رئيس مجلس الوزراء في يناير 2007. يا سلام.. هذا غيض من فيض العالم خالد عودة الذي ولد في الزقازيق في أغسطس 1944. الذي تخرج في كلية العلوم بجامعة أسيوط حيث حصل علي درجتي الماجستير والدكتوراه. وله 34 بحثا منشورا في دوريات علمية أجنبية. وقام بإنشاء المتحف الجيولوجي بمدينة قنا بمجهوده الفردي عام 1973. ويشرف علي المتحف الجيولوجي بجامعة أسيوط. واشرف علي 11 رسالة ماجستير ودكتوراه. ومؤخرا كتب المؤلف العلمي الوحيد الضخم أطلس »أطلس مخاطر التغيرات المناخية علي السواحل المصرية والسياسات الدفاعية الواجبة«. بعد كل هذا لم يحصل العالم الكبير خالد عبد القادر عودة علي أية جائزة من جوائز الدولة. بدءا من التشجيعية وانتهاء بجائزة مبارك. وهذا لا يقلل من شأنه بالطبع ولا يخصم من إنجازاته العلمية إنجازا. لكنه يقلل من شأن تلك الجوائز التي تعطي للواصلين. خالد عودة واصل بتراب مصر، ولا صلة له ب »الزابدين« من الزبد الذي يذهب جفاء. فطوبي لأمثاله من محبي مصر الأصلاء، الذين يمنحوننا الأمل، ويملأون نصف الكأس.